الجمعة 19 ابريل 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

يقولون : (مت كي نكرّمك ).. ويعنون : (مت كي نحتفل بغيابك ) ....

  • 00:10 AM

  • 2022-06-05

أكرم أبو سمرا:

في عام 2005 .. اشتد المرض على مظفر فانعكس على جسده هزالا .. ثم توالت غربان الزهايمر على ذاكرته افتراسا .. وهذا ما جعل جماعة مغارة علي بابا وعلي ماما 2003 في منأى من نيران قصائده

في عام 2011 عاد إلى بغداد ولم يجد من حكومته شكرا ولا وساما ولا جائزة ولا علاجا ..هكذا عاد وكان المطار وكانت الأرصفة .. بلا ( مستقبلين وياسمين ) وبلا محتفين .. لا من الحكومة ولا من الأحزاب ولا من الأخوة عراقوف ولا من الكتاب والمبدعين .. باختصار لم يجد أي تأبين له في حياته .. بل كان على موعد مع العكس : عندما أصبح منفيّا في وطنه بلا طبابة , ولا رعاية الخ ..

ترى ما الفارق هنا بين من قاموا بتشريده مرة أخرى وبين نظام صدام حسين الذي يعلقون على شماعته كل فشلهم واخفاقاتهم وكل آثامهم الربانية وفسادهم , وكأنهم في حفلة انتقام كرنفالية من بلدهم , وكأن تشظيته وتذريره وتبخيره وتبذيره لم يشف غليلهم , كأنهم لا ينتقمون من عراق حمورابي ونببوخذ نصر بل من عراق صدام حسين !! فمن يخبر الهؤلاء أن صدام قد مات .. وهكذا قرر الشاعر الذي يتوكأ على هزاله أن يعود ثانية إلى الشارقة حيث الحضن العروبي الدافىء للشيخ سلطان القاسمي .. تاركا العراق لمن تقاسموا ثرواته وأفقروا انسانه فلم يعد في جسده الشبحي ولا في ذاكرته الي تكاثرت ثقوبها أية قدرة على التحمل وهوالقائل في وصف حالته : ( متعب مني ولا أقوى على حملي ) حتى إذا وافته المنية .. انتبه من أنكروه وتنكروا له عائدا .. وأرادوا أن يتقاسموا موته .. ولكن هيهات .. فحين ارادت الحكومة الفوز بشرعية حيازة سيرته بالاستيلاء على مراسم وفاته كوسيلة للظهور كراعية للمبدعين وكمحاولة للتكفير عن اثم اهماله والتنكر له .. أراد الشباب والفقراء والمذلون والمهانون والمهمَشون والمهشَمون أن لا تنجح الحكومة في سرقة ممات الشاعر عبر مشهدها التمثيلي الذي يظهر عكس ما يبطن .. وبعد أن رأوا أن صيانة جسد الناطق الرسمي باسم ضمائرهم من مدنسيه أمانة في أعناقهم .. اضطروا إلى مواجهة مواكب المشيعين من الرسميين بالأحذية والحجارة .. هاتفين : ( مظفر للشعب مو للحرامية ) و ( برا برا برا ) و ( كلا كلا للعملاء ) .. الخ مؤمنين أنهم بذلك إنما ينفذون وصيته ويدافعون عن سيرته ويحمون رسالته .

هذا المشهد حدث سابقا في جنازة الأديب الروسي دستويفسكي .. إذ شهدت صراعا بين سلطة القيصر وبطانته وجوقته التي أرادت تأميم جثمان الراحل واحتكاره .. وبين الشباب الثائر الذي أراد أن يحول بينها وبين ذلك .. تنفيذا لوصيته التي ذهب بها أبعد من حرص الشباب والعمال والفلاحين على عدم تدنيس جسده الطاهر .. حين ضم إلى القيصر وبطانته الكتّاب والأدباء .. فقال موصيا زوجته آنّا جريجوريفنا : (عندما أموت، يا آنا، ادفنيني هنا أو أينما تشائين، ولكن تذكري جيدًا، لا تدفنيني في مقبرة "فولكوفويه" ضمن مدافن الأدباء، لا أريد الرقود بين أعدائي، يكفيني أنني عانيت منهم الأمرين في حياتي ) .

هكذا ترجم الشباب العراقي مقولة أوغست كونت ) الرجال العظام ينالون الخلود الذاتي بعد موتهم عن طريق الأجيال المتلاحقة لهم ).

طيب : لنفترض أن حكومة العراق كانت صادقة في عواطفها تجاه جثمان الراحل من خلال نقله بالطائرة الرئاسية من الشارقة إلى مطار بغداد وعبر ذلك الاستقبال المهيب من حرس الشرف في المطار .. مع أننا نشك في ذلك كونها تمثل الديجوريين الماضويين .. ولكن لنذهب معها في افتراض صدقية حزنها ونبله .. ولنسأل فخامتها : لماذا وقع استقبال جثمانه كالعظماء في حين كان يعامل حيا ومريضا بكل مشتقات الاهمال ومنتجاته ؟ وإذا ما صدقنا تويتراتكم الموتورة بأن الراحل ابن بار بالعراق وأحد عظمائه .. فلماذا جاء هذا الاعتراف متأخرا وبعد وفاته ؟ ولماذا تركتموه يغادر مرة ثانية إلى الشارقة ليكفيكم سلطان القاسمي شر علاجه ورعايته والعناية بحياته أوبما تبقى منها ؟ وكأنكم استكثرتم أن تصرفوا عليه نزرا يسيرا من بعض ما هبشتم وسلبتم من مئات المليارات ! أف لكم لصوص وبخلاء .. حراميّة ولكن بأيد مغلولة إلى الأعناق و تقتّرون أكثر من عيسى ابن الرومي ومن كل بخلاء الجاحظ ! ثم من أين سيصرف الراحل بذخ الجنازة الرسمية – من أموال الحكومة لا من أموالكم وأسلابكم – من مطار بغداد إلى شوارعها إلى مثواه الأخير ؟

ولماذا لم المسؤول المأبون بتأبينه في أواخر حياته كأن يطلق اسمه على مدرسة أو جامعة أو شارع أو ميدان ؟.. تماما كما فعلت السلطة الفلسطينية حين أطلقت اسم محمود درويش في حياته على أحد ميادين رام الله وهو ما علّق عليه درويش قائلا : ( ليس من المألوف أن يكرم الأحياء فالموتى لا يحضرون حفل تأبينهم وما استمعت إليه هو أفضل تأبين أود أن أسمعه ).

يا سادة : بتكريم المبدع وهو على قيد الحياة يتسع زمانه ويتسع مكانه .. ولا تصح دائما مقولة ( أن تأتي متأخرة أفضل من أن لا تأتي أبدا ) فكثير مما يأتي متأخرا – وعن عمد وتواطؤ غالبا – يأتي خارج الزمان والمكان .. بل يقوم بتضييقهما ليأخذ المكان /الوطن / الأرض شكل قبر .. ويأخذ الزمان شكل حبل مشنقة أومقصلة .. فما بالك إذا جاء التكريم والتأبين بعد فوات الأوان وأوان الفوات .

بتكريم المبدع في حياته يكون قد أحس ولمس وسمع ورأى وشارك وفرح وابتهج وشعر برد الجميل .. بغير هذا تكونون قد حرمتموه عن عمد من ذلك كله .. وصدق فيكم عبيد بن الأبرص حين قال :

لا ألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي

وفي هذا السياق .. أصاب الشاعر شارل بودلير حين اشار إلى الحضور الحي الذي يزيده حضورا ..وإلى حضور الغياب الذي يزيده غيابا حين قال : كلمة مدح تقال لي في حياتي خير من ألف كتاب يكتب عني بعد موتي )

يا قوم : وبناء على ما سبق فإن كل تكريم للمبدع بعد وفاته – خصوصا إذا سبقته متوالية اهمال عمدي تهميش قصدي واقصاء ونفي وسجن الخ – هو متاهة وسفاهة وليس هدى ونباهة , هوقمة الخيانة والإذلال لا الوفاء والكرامة , وإذا شئتم استخدام كلمة (وفاء ) فلكم ذلك ولكن بشرط استبدال حرف الهمزة بالتاء المربوطة .. لأن هذا الوفاء الزائف العنيف يميت الراحل مرتين ... فلترفعوا أياديكم عن روحه .. ولا يجوز لأياد ساهمت في محاصرته وملاحقته والتضييق عليه أن تمد لتربت على ريش روحه المنتوف .. فاليد السوداء لايمكن أن تكون بيضاء تسر الناظرين حكما .. يقول درويش : ( سرقت دموعنا يا ذئب , تقتلني وتدخل جثتي لتبيعها ) ..!!

الأنكى من كل ما سبق يكمن في الحالات التالية :

1- أن يصدر وزير ثقافة العراق بيانا يطالب فيه حكومته بمساعدة شاعر يحتضر في منفاه فيتلقى توبيخا وتقريعا من برلمان حكومته بحجة أن الشاعر اياه معد للعراق ولله ورسوله ! حدث ذلك مع سعدي يوسف ..ثمتراجع وزير القافة وسحب بيانه ببيان يقطر خوفا ونفاقا ( تعطفت معه كمريض يحتضر ..ولكن عاطفتي تجاه وطني وديني أعلى منه )!!!

2- أن تصحو دولة من نومة أهل الكهف فتتذكر أنلها ابنا مبدعا مات قبل عشر أو عشرين سنة فتقوم بتكريمه ..وهذه لعمري مهزلة ..وينطبق عليها وصف التكريم التكريم الوقح الجارح !

3- أن تقوم دولة غير دولة المبدع بتكريمه والاحتفاء به فيما دولته تكرم راقصة أو مطربا حلمنتيشيا أكروباتيا وهذه هي الصفاقة بشحمها ولحمها

يا جماعة : وما دفعني إلى كتابة هذا المقال أمران .. أولاهما تويتر للكاظمي رئيس الوزراء وتويتر لبرهم صالح رئيس العراق العظيم .. للأسف ذكرتني هذه العظمة بلازمة لساسة لبنان يفتتحون بها خطاباتهم : يا شعب لبنان العظيم .. وفيهما – أقصد التويترين –وصف الرئيس ورئيس حكومته الشاعر النواب بأنه ( كان ابنا بارا بوطنه ) !!.. وثانيهما قول لمدير احدى الفضائيات العربية ومراسلها من بغداد بأن مظفر النواب وبعد عودته إلى العراق لم يجد النموذج الذي ينشده فاتهم من الساسة ومن أقرانه بالمثالية المطلقة !!

والآن .. هل يعرف الرئيسان معنى الوطن ؟ أجزم أنهما لا يعرفان .. وإذا عرفاه فهو حتما لن يكون وطن النوّاب .. وإذا النواب بارا بوطنه فلماذا لم يقابله الوطن ببعض البر ؟ .. إلا إذا كان بعض البر اثم .. وليسامحونا إذا قلنا بأن الأولى ببر الوطن هو النواب لا هم .. لأن كثيرا ممن حكموا العراق بعد 2003 كانوا يعملون في وزارات صدام حين كان النواب محكوما عليه بالإعدام !!

يقول أريستوفان : الوطن هو حيث يكون المرء بخير

يقول بنجامين فرانكلين : حيث تكون الحرية يكون الوطن ( لجأنا لهذا القول لأنكم أمريكيو الهوى

ويقول الحسن البصري : خير البلاد ما حملك . وأضيف عليه ( وتحمّلك ) وكيفلا يتحملك وأنت لا تبخل عليه بروحك.

وإلى الذين يحتكرون الإمام علي وما هم بإماميي الهوى طوية نذكرهم بقوله :

المال في الغربة وطن , والفقر في الوطن غربة .. ويا لها من غربة بأنياب ومخالب ذوي القربى

وماذا يبقى من الوطن حين يتحول إلى غابة لحيتان المحاصصة ؟

وأما من اتهموه بأنه يتمتع بمثالية مفرطة .. بمعنى أن ما ينشده مفارق للواقع .. فالهؤلاء هم آخر من يتهم الآخرين بالمثالية المطلقة .. لأن مظفر لم يعد الناس بالجنة ( اليوتوبيا المطلقة ) مقابل التبرعات والخمس والزكاة والنذور المالية الخ ولأنه لم يشكل ميليشيا تتاجر في كل شيء ولها حصص من كل شيء وأتاوات على كل شيء

الذين قالوا ذلك عن مظفر هم .. إما أنهم لم يعرفوا مظفر النواب وإما أنهم أرادوا تشويهه لأنه يسقط كل أوراق التوت عن عوراتهم !

فهل من اليوتوبيا والمثالية في شي أن يطالب النواب بعراق ليس فيه جوع ؟ كما أشار إلى ذلك السياب من قبله

وهل من اليوتوبيا أن يطالب بحقوق للمواطن كالعمل والأمن والطعام والشراب والملبس والمسكن الخ ؟ والتي لو طالبت بها في دولة أوروبية لظنوا أنك تعاني من خلل عقلي

وهل من اليوتوبيا أن يطالب النواب باستئصال الفساد من جذوره ؟ .. الفساد الذي خلق مئات المليارديرات .. الفساد الذي حول العراق من بلد منتج للكهرباء إلى بلد تنقطع فيه 20 ساعة في اليوم .. وجعل بلدا كان الأول في انتاج التمور مستوردا لها .. وبلدا يستورد الماء وقد حباه الله بنهرين ! الفساد الذي قدّر البرلماني رحيم الدراجي أمواله المنهوبة منذ 2003 ب 450 مليار دولار ...الفساد الذي يتقاضى فيه مئتان وخمسون ألف كائن فضائي أو افتراضي رواتب .. وتصرف من أمواله رواتب تقاعدية لأكثر من 25 ألف متقاعد شبحي وهمي .. الفساد الغارق في مئات الصفقات الوهمية مع الخارج .. الفساد الذي يجعل وزير الاتصالات والمواصلات – في ارتجالية زعرانية قروسطية - يعيد طائرة بركابها إلى بيروت ليلتحق بها ابنه المدلل الذي تأخر عن الطائرة ساعة كاملة أنتم سدنة يوتوبيا الفساد وفساد اليوتوبيا

يا ناس : ولو كنت مكان النواب لأوصيت بدفني في دول احتضنتني ورعتني مثل سوريا وليبيا أو الشارقة .. ولكن ماذا تقول فيمن أوصى بأن يدفن إلى جوار والدته / نقطة ضعفه ؟

لو كنت مكانه لأعدت صرخة وحكمة القائد حنبعل : ( أيها الوطن الناكر للجميل ..لن تكون لك عظامي ).

ختاما .. نقول للهؤلاء : ستلتهمكم فوهة النسيان ..وسيبقى اسم مظفر على مرالأجيال .. لك هومكرالتاريخ الذي تجهلون ..فها هو جاليلو خالد بينما لا يعرف احد اسم واحد ممن حاكموه .. وقام الزمن بتخليد اسم سقراط وغابت أسماء من حكموا عليه بالإعدام وعاش وحظي بالتخليد جيوردانو برونو وأعيد إليه الاعتبار من سلالة قاتليه .. وذهب إلى مزبلة النسيان كل من حكموا عليه بالموت حرقا .. وبقيت سيرة المناضل فرحات حشّاد وانقرضت سير كل من تآمروا عليه ومازالوا يتآمرون

وسنردد في مظفر ونعيد ما كتبه الروائي عبد الرحمن منيف بعد اغتيال حسين مروة : ( إنك باق فينا .. إنك تتجدد في كل عقل وضمير ).

الإهمال هو أيضا اغتيال .. يا وكلاء الإحتلال.

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لـ "ريال ميديا"

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات