السبت 20 ابريل 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

لم يخطر ببالي جدتي انها ستقفل باب بيتها الخشبي للمرة الأخيرة".محمد الجالوس.

  • 00:30 AM

  • 2019-10-05

أسيل عزيزية*:

أطروحة الفنان محمد الجلوس لمعرض ابواب 48، تكاد ان تكون مرجع للأجيال القادمة ولن يستغنى عنها كل من هو مهتم بتاريخ القضية.
تلك الابواب أرّخ بها الفنان مراحل ضائعة وكانت غائبة عنا، خاصة من لم يجالس جداته واجداده, ولم يروو له تلك الحكايا عن 1948. وقد اعادنا لامجاد اجدادنا ، في سبيل رسم صورة الحياة الاجتماعية في فلسطين حتى عام 1948 وما بعد ذلك، حيث انقلبت الحياة رأسا على عقب . وبعد النكبة لم يعد هناك ولادة لابواب حديثة، بل توقف إنجاب تلك الأبواب عند ذلك العام .
لم يتوقف اهتمام الجالوس بتقديم الباب من جانب واحد كرسالة لقضيته، بل انطلق في تقديم جوانب أخرى وعناصر مختلفة كان قد افرغها على تلك الأبواب الصامدة كالجوانب التراثية حيث نجد أن تراثنا قد زرعه الجالوس على ابوابه، وما زال ذاك التراث في أوجه، وجوانب ثقافية واجتماعية نجد بها عاداتنا وثقافاتنا كانت قد نُقشت بألوان الفنان، وأخرى تاريخية يغلب عليها منطق التاريخ كما يتضح ان الفنان اراد من هذا النمط اعادتنا للحياة منذ خلق اجدادنا حتى يوم النكبة 1948.
ولم يسقط من الجالوس ان يصور لنا صناعة تلك الأبواب والمهن التي كان يمتهنها اجدادنا وكيف كانت تُصّفُ ألواح الخشب اما بصورة منتظمة مما يدل على أنها صنعت قبل النكبة بكثير ولم يكن متوقع تركها صامدة لوحدها تحرس تاريخنا وذكرياتنا، او كانت مصفوفة بصورة عشوائية وهو ما دل على أن اجدادنا قبل رحيلهم حاولوا تدعيم تلك الأبواب لتكون اصلب واقوى في مواجهة العدو.
ونرى بلوحات مختلفة انه كانت تكثر الثقوب بتلك الأبواب وهو ما كانت تروي قصص بعض الشهداء وانه حتى الأبواب كان منها هناك الكثير الكثير من الشهداء .
وبعضها كان شاهدا على شهادة شهيد واحتفظت بنقاط دمه لتصبح دمائه زركشة من تراثنا وتاريخنا .
ولو حاولنا اختلاس النظر من تلك الثقوب لرأينا الصورة الحقيقية لما تعنيه كلمة حياة ، فخلف تلك الثقوب كانت القصص والحكايات والسعادة والفرح الذي اختطف أنفاسنا مما ما لم يرسمه الجالوس على تلك الأبواب المُتعبة.
اما القفل كان عنصرا حاضرا في أغلب اعمال الفنان لكنها كانت بلا مفاتيح، فقد غاب المفتاح عن القفل في لوحاته وهذه كانت خطة ذكية من الجالوس، علنا نبحث في جيوبنا او حقائبنا عن تلك المفاتيح. علنا نحمل امتعتنا لنعود لديارنا.
وجدت بعض الأبواب وكأنها مكتبة ممتلئة بتلك الكتب التي تحمل ذلك التاريخ الحقيقي الذي لم يُكتب، والذي لم نقرأه ، والذي لم نعلّمه لأبنائنا. فقد كانت تمتلئ به ارفف ابواب الجالوس. وكان يحتاج مني للكثير من الوقت لأقرأ تلك الكتب ، وكم تمنيت لو اني رافقت تلك الأعمال منذ ولادتها لاخوض تجربة القراءة من فكر وريشة وادوات الفنان التي صنع منهم تلك الكتب التي وجدتها على ابوابه مختبئة..
وان أكثر ما أثار فضولي بتلك الأبواب هو، كيف حولها الجالوس من موضوع إلى مضمون وقضية ، لها ابعاد زمانية ومكانية وانسانية ولغوية ، ومدى اهميتها التاريخية والمعرفية والاجتماعية.
ان فكرة الأبواب هي تحول بالبعد المكاني الفراغي للوحة إلى بعد جغرافي بحت. وكيف حول الأشخاص والكائنات والخيالات لشخوص نموذجيين أكملت وأثرت فكرة العمل الفني، وأضافت حوار بلغة بعيدة عن أبعادها النحوية والصرفية لإبعاد فنية مثقلة بزخات قطرات جمالية .. انسكبت على حسنا بجمل وكلمات حاورتنا بتاريخنا وامجادنا ... ولامست جراحنا وفقد الوطن فينا.
لقد أدلى الجالوس في أعماله بواقع وتاريخ واخبار وحكايات ومعلومات والم وفرح وفقد....الخ
وقدمها لنا بواقع جديد، وخلق عملية فنية إبداعية، اعطتنا الصورة الاصلية بمضمون جديد يشرح (القضية).
ان المتأمل لمجمل اعمال الفنان في معرض ابواب 48 لا بد ان يستوقفه ذلك المنظور الواضح المعالم الذي الّح واكّد الجالوس على إيضاحه بلوحة تلوا الأخرى.. فقد كان الباب دائما موصدا لكن مرة كان بصناعة بسيطة، وأخرى أكثر تطورا، وأحيانا مهمشة تفاصيله، وأحيانا أخرى يُفصلها. وهو ما أثرى لدينا عن الحياة الاجتماعيه آنذاك. كما كانت في بعض الأعمال جوانب الأبواب مخفية وأخرى واضحة مما يثير الشك لدينا هل هي ما زالت قائمة ام انها سقطت أرضا شهيدة. كما أن بعضها كان مزركش اما بدماء الشهداء واما بألوان العطاء واما بلون الحب، فكانت أحيانا تجعلنا نحزن ، وأحيانا أخرى نشعر بالفرح والامل أننا حتما سنعود.
ويظهر جليا لدينا أيضا تلك الأبعاد المختلفة والزوايا القائمة والحادة والمنفرجة وتلك الإيقاعات الجديدة التي تشكلت بريشة وأدوات الفنان لتقدم لنا أحداث جديدة للنكبة، مما تغلب على المتلقي حالة من الهذيان والصمت وامتلائه بالشكوك: ترى هل هذا باب منزلنا ام باب منزل صديقي او عمي او جاري او.. او.. او....
وهل هذا الباب شجاع أكثر منا؟؟
وهل هو وفيٌ لارضنا أكثر منا؟؟؟
هل اعتاد الصمود أكثر منا؟؟؟؟
فقد أبدع الجالوس حينما طرح ما طرحه فكانت الأبواب في أعمال الجالوس جيش وقف في وجه العدو واجهه وحاربه وحافظ على ممتلكاتنا وتراثنا وذكرياتنا وتاريخنا ، بينما نحن كنا في طريقنا للضياع والشتات والتهجير.
كان هناك بعض اللوحات التي جعلتني اتسائل كثيرا: ترى لما الغراب هنا؟ فكرت مليا بالامر، فمن المتعارف عليه ان الغراب يتميز مقارنة مع غيره من الطيور بمستوى ذكاء مرتفع نسبياً، فيمكنه استخدام الأدوات، و يبني منها بيوت له. وهو وفي جدا لعائلته وسربه. اعطاني الغراب العديد من الاشارات التي تزاحمت في فكري، حينما كان ظلال على الأبواب اشار لي ان ذلك الغراب صديق الفلاح الذي ما زال ينتظر صديقه ليخرج لارضه ليفلحها.بينما هو يتغذى على الدود والحشرات من الأرض، فما كان منه إلا الانتظار عند تلك الأبواب ولم يدرك الغراب ان صديقه الفلاح قد اغترب عن ارضه. وقد كان يريد الجالوس ان يعلمنا درس في وفاء الغراب لصديقه الفلاح .. وفي بعض اللوحات سمعت صوته النوحي والذي يُتهم به الغراب بانه نذير شؤم. كنت اسمع ان الغراب يستطيع أن يميز بين الوجوه وتصنيف البشر الى جيدين او سيئين . وهو ما دل على تكشف حقائق كانت مخفية قبل 48، كما يستطيع الغراب التكيف في مختلف الظروف المناخية والبيئية فأراد الجالوس به ان يطرح فكرة ان العدو اعتاد وتعدى على ارثنا وارضنا ومنازلنا وسرقها. وان الاختلاف في لون الغراب فكرة عبقرية لإعطاء صورة مختلفة للغراب الاسود عن السكني .. كما دل وجود الغراب عند بعض الأبواب إلى الغربة والسفر والترحال.
صابني الحزن والانكسار من داخلي حينما تمعنت طويلا بتلك اللوحة، التي شف بابها ما خلفه من قصة اغتصاب تلك الفتاة .. والثمن الذي دفعته لتروي تراب ارضها، وارتوائه من قدسية شرفها. كما روى لي باب اخر قصة الطفل الاسير التي لم يكبر في حضن امه ووسط عائلته.
روت الأبواب حكايات تفوق قدرتي على الكتابة حكايات شلت مشاعري وانهكتني.. إلا أن ذلك الضوء الذي صوره الفنان بعلاقة الضوء والظلال على الأبواب جعلت مني ذلك الملتقط لانفاسه انه سيعود حتما يوما ما ،كما تعود الشمس كل صباح على تلك الابواب.
لقد أسس الفنان شبكة من العلاقات بين الأعمال مهمة جدا في دراسة تاريخ جديد لوجود مفهوم جديد لشبكة بين واقعين أحدهما مضى والآخر حاضر، ان شبكة العلاقات هذه بجميع أبعادها السياسية والتاريخية والاجتماعية والفكرية والثقافية يربطها الفنان بالواقع والمجتمع وأحواله آنذاك، حيث يُبين مدى ارتباط تلك الأبواب بخيوط ثقافية جمالية وفنية ، حيث أقام حوار خاص به مع تلك الأبواب تجلت لنا من خلال جدل تلك العناصر مع بعضها البعض، لتشكل عمل فني متفاعل مع المتلقي بحوار لا يليق إلا بمستوى فنان مبدع ، وقضية عالمية.

*( ابواب 48 - محمد الجالوس ) 2019

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات