الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

قصة قصيرة:

الحفيدة

  • 01:11 AM

  • 2020-06-20

فخري أبو شليب*:

تدفق نهر ذكرياتى عن جدى لأبى فجأة أثناء رحلتى إلى تلك المدينة البعيدة . أغفو و أفيق ، أتصفح الجريدة وأحتسى الشاى ولا يزال الطريق طويلا . لا أرى من نافذة القطار سوى لون الصحراء ، ولافتات متباعدة علي جانب الطريق لا تكاد تظهر حتى تختفي .
كان على أن أصحو مبكراً ، في السادسة صباحاً ، فالقطار يتحرك فى التاسعة ، و بالكاد تكفى من يعيش وحده دائراً فى فلك السبعين ثلاث ساعات للاستعداد للسفر يلملم فيها أطرافه و يتناول دواءه .
رحل أبى فجأة — أغلب الظن إلى الجنة — ولم يشهد زواج أحد من أولاده ، وكانت أمى أكثر حظاً منه فقد لحقت به مدفوعة بأمراض القلب و الكلى بعد أن زوجت أخوّى و تعرفت إلى خطيبتى ، وأنا أوفر حظاً منهما ، فلي حفيدة تسكن تلك المدينة البعيدة ، وغدا تبلغ من العمر عامها الأول .
منذ عام شهدت ولادتها وبقيت هناك عدة أيام .
كانت عيناها مغمضتين و أصابعها كعيدان الكبريت ، ولم تتحدد لها ملامح . قال أبوها إنها تشبهنى و تشبهه و قالت خالتها إنها تشبه أمها . لم أحس بوجودها إلا عندما تصرخ طلباً للرضاعة أو عندما يصيبها البلل . و كانت فرحتى بها غير محددة ، تماماً كملامحها . لم أحملها سوى للحظات كما لو كنت أحمل قطة وليدة أخاف أن تسقط إن أرخيت يدى أو تختنق إذا ضغطت عليها .
كنت مسافراً عندما رحل الجد بعد غيبوبة طويلة . ولم يبعث لى أبى ببرقية ، وعندما عدت عاتبته كثيراً فقال :
— لم أشأ أن أزعجك فتترك عملك الجديد وتعود .
تلون عتابي بشئ من الغضب عندما قال :
— كان يردد اسمك في غيبوبته .
فى القطار أخذت أتأمل صورها ، يبعثون بها إلى شهراً بشهر ، تتغير ملامحها مع كل صورة ، تزداد شبهاً بى ، تضحك فى إحدى الصور فتظهر في فمها سنتان كحبتى أرز ، و فى صورة أخرى تزحف وهى تنظر إلى العدسة مستغربة .
العلاقة بين الجد والحفيد محبة خالصة لا تشوبها زواجر ، لا يعرفها سوى من عاشها ، علاقة حولت المثل المصرى العتيق إلى حقيقة علمية مؤكدة : أعز الوِلد ولدِ الولدِ .
اشتري لي الجد ساعة يد ماركة تل وعلمنى قراءة الوقت وأنا فى الثامنة ، كما علمني قراءة لافتات الشوارع والميادين كي لا أضل الطريق . كان يقول : من يقرأ لا يتوه . ومازلت أذكره كلما مررت بشارع فؤاد وشارع سليمان فقد كان يشتري لي الشكولاتة من محل الأمريكين ، ومازلت أحتفظ ببعض الريالات الفضية التى تركها لى فى علبة معدنية صفراء مكتوب عليها بالإنجليزية : لاكى سترايك .
كان يصر على أن أرتدى حمالة بنطال مثله ، فهى لا تعوق الهضم والتنفس .
كنت أخفيها وأطلب منه حزاماً فيشترى لى غيرها . حاولت أن أغيظه مرة فضحك كثيراً وقبَّل رأسى . كنت فى السابعة عندما سمعت بائع الروبابيكيا يمر بشارعنا مردداً : راديو قديم للبيع .... ملابس قديمة.... حملت بعضاً من كتب الجد وأخذت أردد بتنغيمة طفولية : جدو قديم للبيع ....
فى القطار كانت معى علبة الريالات الفضية وقد أضفت إليها عملات تذكارية عليها وجوه جمال عبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، وبعض فناجين القهوة ذات الرسوم اليابانية البارزة الملونة وبعض أدوات المائدة الفضية كانت ضمن جهاز أمى .
قبل أن أستسلم لإغفاءة طويلة أحسست بهاجس غامض سرعان ما تحول إلى حلم .
رأيت الصغيرة وقد كَبُرَتْ عدة سنوات ، حول معصمها ساعة صغيرة مذهبة ، وهي تطلب من أبيها أن يعلمها قراءة الوقت .

* مصر:

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات