الثلاثاء 19 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

قصة قصيرة...نرجس

للكاتبة/ غفران سليمان

  • 00:07 AM

  • 2020-02-23

غفران سليمان:

الأثر يقترب يبدو اكثر قربا . نعم هو بعينه يغيب كثيرا ويأتي كغيم الصيف بطيئا عجوزا مفارقا العقل الجسد حينا، ومجتمعا كحكيم ابحث عنه أحيانا كثيرة لأستقدمه كضيف كريم يحكي لي أهوال ما يرى هو
العم غانم من أقاربي البعيدين، الذي يعيش بغموض تام لا نعرفه إلا عندما يتردد على شارعنا من فترة لأخرى، متسلحا بمكنسته المصنوعة من شجيرات البلان، لينظف الشارع ، ويشذب أشجاره، غاب لفترة... عندما صادفته عادت «لى ذاكرتي يوم كان متوسط العمر تجذبني ابتسامته، ودعساته على دروب القرية، وحروفي التي حفرتها على شجرة التوت وكان أول من اكتشفها علم يومها أين يسكن قلبي، وكان صاحب سر فلم يفشي سري ومن يومها وأنا أحبه كتاريخ ..
هذه المرة كان يحمل على كتفه، طفلة صغيرة، وصرة مزركشة، قبل أن يموت صاحب الحرف الذي حفرته، اخذ منديلي المشابه له ولم يعد هو من من مهمنه العسكرية، ولا عاد المنديل المطرز عليه اسمي واسمه بخيوط سرقتها من درج امي المليء بالخرز والابر ولفات الصوف...
حزرت بلا عناء أن في الصرة بعض الثياب وفتات خبز لاغير لتلك الطفلة... أيّة حياة تنتظركِ أيتها الصغيرة مع غبار وفقر العم غانم ،لو كان القلب يكفي لاشبعك قلبه؟قلت في نفسي وسألته بريبة:
-من هذه الطفلة ياعم؟
أجاب باستغراب ألا تعلمي هي:
-ابنتي...ّ
تنفست لعابي من شدة الاندهاش وسألته أتمزح؟ أردفْتُ
-متى وكيف وهل تزوجت؟
قال ببرود وأظهرت نظرته عدم تصديقي أنني لا أعلم فعلا وقال،:
-نعم كانت في القرية عند جدتها بعد أن ماتت أمها يوم ولدتها، قالوا لي: من نقص التغذية أثناء الحمل...
مع أنني كنت أحضر لها دائما الخبز، يبدو أنه لايكفي أم وجنينها ..
وكنت سعيدا بهما جدا لو جمعتنا الحياة
لكن كما يقول المثل ما إن يبدأ التعيس الرقص حتى ينخرق الطبل، ماتت جدتها أيضا
-قلت له متوسلة : ياعم غانم تعرف أنني أعيش بمفردي بعد هجرة أولادي أعطني إياها، مااسمها؟
اسمها: نرجس
أربيها وأتسلى بها ، وتراها متى أردت..
ليس من المعقول أن تحملها وأنت تنظف الشوارع... وعموما ليست مهنتك ولا تتقاضى على هذا العمل مرتبا شهريا، تعتمد فقط على أهل الحي ومبادراتهم وهذا لا يسد جوعا ولا يكفي للعناية بالطفلة
- بعيون غاضبة قطع علي أي كلام لا هي ابنتي ولن أتخلى عنها وستعيش معي..
ابتعدا ابتعدا مع الغبار
-2-
راقبته حتى اختفى مع الشمس
تاركا الشارع نظيفا كبيوتنا...في شارع مكتظ بالمارة من الغرباء ركنها بجوار الصرة وذهب لقضاء حاجة، عندما عاد لم يجدها كما أخبرتني
فيما بعد...
بحث عنها وكأنها حبة ملح في ساقية ماء...
بكى عليها، ولم يتحمل قلبه المليء بالغبار خيبته في ضياعها، وتوقف إلى الأبد تاركا لي هذه الطفلة زوادة لحياتي فيما بعد..
بعد مراسم الدفن التي تكفلت بها، والعزاء الذي عمللته له، لم أتردد و
أخبرت الشرطة عن افتقادي لابنته التي كانت يوم وفاته برفقته، لكن أحدا لم يوصلني إلى شيء، ولا أملك إثباتا بوجودها ولا حتى صورة
-3
بعد عدة سنوات بينما كنت أتسوق لمحت طفلة تضع ذات الصرة كمنديل على رأسها بثياب رثة ، حافية القدمين متسخة الوجه، ركضت إليها وجثوت استفسر عنها رفضت الكلام بداية ، لكنني ألحيت عليها وأغريتها بالمال، أخبرتني أنها تعيش مع أم وأب وحيدين، ويبالغان في تقبيلها لكنهم لا يجدون ما يشبع جوعهم، لحقت بها، وعرفت البيت، وبمساعدة الشرطة تمكنا من معرفة ماخفي عني يوم وجد والدها ميتا في السوق، ووافقت السلطات على بقاءها معي بشروط، وعاقبوا ذلك الرجل الذي أقسم أنه لم يكن يعلم أن لها أهل وظنها مرمية فأحضرها لزوجته، لتربيها كابنة لهما لانهما وحيدين، بعد أن هربا معا يوم كانا شابين ولم يتمكنا يوما من الإنجاب...وبعد مرض الر جل استعانوا ببراءتها ويتمها وأرسلوها إلى الشارع لتتسول لهم ما يعينهم على العيش..
..أحضرتها إلى منزلي برغبة، كنت أهتم جدا بدراستها... وفعلا تمكنا بفضل عزيمتها واصراري من تجاوز المرحلة الابتدائية بصعوبة لأنها كانت تكبر باقي التلاميذ، ثم الإعدادية
تخطت نرجس مرحلة الطفولة ودخلت بطولها وجاذبيتها وبخدود حمر وسمرة خفيفة، وصوتها الجميل أيضا مرحلة المراهقة... عندما كانت في الثانوية قبيل الامتحانات ، تقدم لخطبتها ابن جيراننا، وكانوا أصحاب شركات ومعامل ،وافقت وطلبت منه احضار والده، رفض الأهل بشدة وقال لي الأب: عليك أن لاتتضايقي من رفضنا ياجارة، أنت جارتنا التي نحترم لكن نرجس ليست ابنتك وقضت أعواما في الشارع، ولن أزوج ابني ابنة شوارع، ولو لم يكن في المدينة سواها...
علمت أنها كانت تلتقي به في غيابي لهذا وافقت ، ولكي تعي تماما أنه لا يستحق محبتها وافقت... لم تكن ردة فعله ايجابية، وقد قال لها أهلي على حق وعندما أحببتك كان عليك اخباري بكل تفاصيل حياتك... نسيت نرجس كل شيء عندما بدأ العام الدراسي للشهادة الثانوية، اتمت امتحانها وسط فرحي والبشرى من أساتذتها بتميزها، وحصلت على درجات أهلتها دخول الجامعة، وتمكنت من الحصول على بعثة خارجية، تقدمت لها بطلب، وتمت الموافقة وغادرتني أيضا كبقية أولادي، إلا انها أكثر وفاء منهم فقد كانت تراسلني باستمرار، تفوقت في جامعتها.
ولم تنقطع عني فقد كانت تستغل كل سنة الفرصة لتزورني في عطلتها،
لكنها لعامين متتاليين لم تفعل بسبب نشوب الحرب التي حلت بالمدينة، وقد تهدمت معامل كثيرة ، وأغلقت معظم الشركات اذا لم تحترق أو تنهب، ولم يبق من ثروة جارنا الذي رفض نرجس كزوجة لابنه سامر..
ذهبوا جميعهم إلى مدينة أخرى كلاجئين وعلمت أنهم يعملون في مطعم وجبات سريعة للحصول على المال اللازم لحاجاتهم اليومية...
4
وتزوج سامر من ابنة خالته
بمباركة أهله، وأنجب طفلة بيد واحدة لأن أمها كانت تبالغ في الشرب وتناولت في بداية حملها بعض الأدوية دون مراقبة طبية...
كانت نرجس قد أخبرتني انها أحبته كثيرا وانها ذهبت معه مرارا إلى بيتهم الواسع وأنها كانت تثق به جدا، ولم تتمكن من اخباري بباقي التفاصيل التي فهمتها لاحقا..
هناك في مدينة قريبة من موسكو بثياب شتوية سميكة أرسلت لي صورها مع شاب قالت انه سوري أيضا وانها اختارته ليكون زوجا وانها أخبرته كل شيء عن حياتها حتى ذلك الذي لم تخبرني به، لم يتوقف عند ذلك وقد كانت ممتنة له تفهمه ..
قالت أنه فقط سألها اذا كانت جراح نفسها اندملت فلا يبقى لجراح الجسد أية قيمة؟
وهو طبيب مختص يعمل كطبيب متنقل بين عدة مشافي لخبرته الواسعة في الكشف المبكر عن الخلايا السرطانية بالاضافة إلى استثمار أمواله في دول عربية عدة، وله سفن تجوب البحر المتوسط لنقل البضائع، و معظم عماله من السوريين...
5
ولم يتأخر الصيف لتعود وكل المدينة حضرت عرسها في الحديقة العامة أمام مبنى المشفى الجديد الذي ستديره ، بعد أن أتمت دراسة فرع جديد قالت لي انه: إدارة المشافي وقد بنى المشفى زوجها المستقبلي كهدية لها ولبلده ، وبعد أحاديث مطولة طلبت مني أن أقدم المساعدات للمهجرين، وانها ستبني بيوتا صغيرة للفقراء وستتبنى جميع اليتامى ...
كل محطات التلفزيون البارحة عرضت عدة عمليات جراحية معقدة قام بها الفريق الطبي بالمجان في مشفى النرجس، من بينها تركيب يد صناعية لابنة سامر ذلك الذي أحبها، وأقام مع مراهقتها علاقة مفتوحة، وبعد ذلك رفض الزواج بها بحجة أنها ابنة الشوارع، بل هي ابنة من كره أوساخ المدن وجرب تظيف الظاهر منها...
علما أن نرجس رفضت رفضا قاطعا أن تستمع لشكر أهل المريضة، وتمنت ان لا تقابل أبدا الأب.

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات