أدب المقاومة حديث ضبابي يحضر بالتوازي
تاريخ النشر : 2015-02-19 18:16

عمان- " ريال ميديا":

لا يمكن لحوار واحد ان ياتي على ما تحمل الدكتورة رزان من أفكار خلاقة وطروحات مشبعة باهمية الخروج من خطاب الأزمة نحو تكريس اولوية الثقافة ، الدكتورة رزان ابراهيم التي تحمل درجة الدكتوراه في نقد الأدب الحديث من الجامعة الأردنية عام 2001، تعمل أستاذة للنقد الأدبي الحديث في جامعة «البتراء». ولديها العديد من الكتب النقدية التي تعد مراجع هامة في المكتبة العربية الاكاديمية المرموقة وابرزها : كتاب «خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة» ، و " الاستقبالية العربية للحداثة وما بعدها"، و«الرواية التاريخية بين الحوارية والمونولوجية», و"شعرية الفقد- جدل الحياة والموت في شعر الخنساء», بالإضافة إلى نشر المقالات والأبحاث في الملاحق الثقافية والمجلات العربية ، وابرز تلك الابحاث الهامة والتي تعد مرجعا هاماً لطلاب الدراسات العليا : "السيرة الروائية في أنثى السراب لواسيني الأعرج "، ورحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية : دراسة في المقاصد والمنهج , والمؤثر الاستعماري في الكتابة الأدبية ايقاعات متعاكسة تفكيكية، و خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة, وغيرها من الابحاث ، ومع د.ابراهيم كان هذا الحوار حول العديد من القضايا الثقافية الراهنة والهامة.
حاورها : تيسير سلمان 

• تطرحين في مشروعك النقدي الصلة والعلاقة الممكنة بين الفكر والسياسة برأيك هل هذا ممكن ؟
ـ إمكانية الائتلاف بين الفكر والسياسة لو افترضنا بأن ائتلافاً بين الفكر والسياسة أمر حلمي مستحيل, فإن هذا يعني أن الفكر والثقافة مجرد ترف ذهني أو استعراض ديكوري لا قيمة له على أرض الواقع, أو هو مجرد خيالات تعيق السياسة بما تتطلبه من خطوات عملية. 
لا أنكر حضوراً كمياً لمثقفين يسعون إلى التأثير في القرار السياسي. لكن حين تسألني عن ائتلاف بين الجانبين تحضرني بالضرورة عثرات وضغوطات سياسية همها إخضاع المفكر لإملاءاتها, بل وإنذاره بالعزل والتشويه والإذلال إن لم يلتزم بها.
المفكر الذي أتطلع إليه هو المدافع الأول عن جماعة ينتمي إليها وهو الملتزم الأول بمعايير الحقيقة والمعرفة. قد تكون العلاقة بين الجانبين ملتبسة لكن هذا لا يمنع من القول إن صاحب الفكر الثاقب هو الأكثر تأهيلاً لفتح أو اقتراح الحلول الأنسب لصالح الأمة الجمعاء لو أعطيت له الظروف المناسبة كي يمارس مهمته بعيداً عن أنواع الضغوط المختلفة. 
* لماذا تبتعد المؤسسة الثقافية العربية ممثلة بوزاراتها الثقافية عن نقد "داعش " وما تطرحه من افكار ؟ 
ـ نقد داعش على نحو مؤسس هذه ظاهرة لها أبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة. والخوض فيها يقتضي اقتحاماً لموضوع شائك صعب حساس. تتضارب الآراء حوله وتتعالق. يبقى في نهاية الأمر خطراً بات يتهددنا من كل صوب يقتضي منحه كل اهتمامات البحث الضرورية. 
تسألني هذا السؤال وأنا أقرأ كتاباً هاماً لعبد الباري عطوان ( الدولة الإسلامية: الجذور التوحش, المستقبل). وهو أنموذج لكتاب أتطلع إلى إمكانية من يحاكيه في البحث عن جذور وامتدادات هذه الظاهرة الخطيرة. 
توجد هناك مقالات مبعثرة هنا وهناك. ولكن الظاهرة بدأت تستفحل وبدأت تشكل خطراً حقيقياً على بلادنا بشكل خاص. والمجابهة تقتضي إلماماً معرفياً بكل ما يتعلق بها وإلا كان الفشل حليفنا. 
* لماذا حضور الادب العربي عالميا يعاني من ضعف ؟ 

ـ الحضور الضعيف للأدب العربي عالمياً سؤال له إحالاته التي تصب في حيثيات الترجمة العالمية. ولربما تقودنا للحديث عن ظروف ومناخات سياسية تشرح لنا خيارات معينة تضع أدباً ما ضمن أولويات ما يترجم لتنحي أدباً آخر. 
معك حق في طرحك. فعلى الرغم من استقبالية غربية لثقافات مختلفة إلا أن اللافت في هذا السياق أن نسبة استقبال الرواية العربية باتت تتضاءل لصالح روايات أخرى, وعلى الأخص رواية أمريكا اللاتينية, وليكون الشائع لكثيرين ممن احتك بمشاريع الترجمة في أمريكا على وجه التعيين أن القارئ الأمريكي لا يرغب في قراءة الرواية العربية, وأن نسبة ما ينشر منها في أمريكا أقل من قليل.
أما هذا القليل لمن يهتم بقراءتها, فيدخل في زمرة قراء تدفعهم رغبة في التعرف على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي مثلاً ليجدوا ضالتهم في رواية مثل( أزمنة الخيول البيضاء) لإبراهيم نصرالله, أو( باب الشمس) لإلياس خوري, أو( رأيت رام الله) لمريد البرغوثي. أو هو قارئ يبحث عن عوالم مثيرة شائعة عن الشرق, وربما يجدها عبر رواية نسوية أو أخرى تثبت نظرة معينة للشرق باعتباره مصدراً لإثارة جنسية تتحدث عن المرأة وعالم الحريم. لكن تبقى لهذه الظاهرة تداعياتها التي تحتاج تأملاً في أطراف متعددة من مثل المؤلف أو المترجم أم الناشر. وتحتاج قبل هذا كله تأملاً في ظروف ومناخات لها دورها الدافع باتجاه سوسيولجيا الذائقة في العالم الغربي. 

*أدب المقاومة الفلسطينية. أهميته الآن. من يحمل مشروع النهضة الآن؟ 
ـ إن تحولاً كبيراً في مسارات سياسية خاصة بالقضية الفلسطينية كان له أثره في هذا المجال. فما من شك ان الخطاب العربي برمته الآن أصبح خطاب أزمة ولم يعد كالسابق يبحث عن كيفية مواجهة العدو الصهيوني وآلياته. أدبنا اليوم يفتقر إلى حيوية المقبل على فكرة النهوض ومواجهة الآتي. الحديث عن المقاومة حديث ضبابي يحضر بالتوازي مع ضبابية باتت تفرض نفسها في خطاب النهضة والتقدم في عالمنا العربي.
أصبح الملتبس هو سيد الموقف. في السابق دفعت الرواية العربية باتجاه الإجابة عن كيفية تحرير فلسطين. الآن الحلم العربي النهضوي يتداعى. والهزيمة تلو الهزيمة دفعت باتجاه استدعاء آليات نقد ذاتي قد لا تخرج كلية عن واحدة من توجهات أدب المقاومة. لكن يبقى الغالب عليها إحساس بالقهر دفعها باتجاه دائرة التفتيش المضني في سلبيات الشخصية العربية. روايات كنفاني المعروفة كانت تسير جنباً إلى جنب مع مشروع حقيقي يرسم خطاه نحو عودة فعلية إلى الوطن. ما الذي تبقى من هذا كله؟ الرواية الآن تحكي العجز العربي في صراعه مع العدو الصهيوني. ولربما تسير خطوات في ذكريات ماضوية لها دورها في المواجهة والصراع. لكن في كل الأحوال الرواية الآن مستغرقة في تصوير أحاسيس الألم والضياع والارتداد عن لحظات الكفاح الجماعي التي حفل بها أدب غسان كنفاني وغيره ممن يمثلون ما عرفناه تحت مسمى أدب المقاومة. 
*ومن يحمل مشروع النهضة الآن؟ 
ـ سؤال مربك بسبب حالات الالتباس القائمة هذه الأيام. ما فتئت أسئلة النهوض والتقدم تشترك فيها تيارات متعددة ولكل منطقه الخاص في كيفية الخروج من حالة سلبية في عالم نوشك أن نغرق فيه. إن ركوناً إلى تيار بعينه يضمن حلاً لما نحن فيه من مآزق أمر يصعب تحديده بسهولة. في ظني أن حالة عربية راهنة تقتضي تحرك كل قوة عربية حية- وأقول حية بغض النظر عن التيار الذي تنتمي إليه- تجابه وبصرامة كل ما يمتهن كرامة الأمة الوطنية أو يوظفها لفرض حلول سياسية رخيصة. المطلوب من هذه القوى أن تشارك في صياغة الوعي الجمعي. ومطلوب منها أن تعترف بأخطاء ماضيها لا بغرض المحاسبة والإدانة, وإنما بغرض فتح إمكانات جديدة عمادها مراجعة جادة وصريحة تمهيداً لإقرار صيغة مستقبلية قابلة للمتابعة وطامحة إلى ابتكار إمكانيات جديدة قادرة على التجاوز والمضي قدماً. 
* تؤكدين أنّ أدباً ما لا يمكن أن تقوم له قائمة بعيداً عن عملية تواصلية تربط المبدع بالقارئ فكيف ترين اشكال العلاقة الجديدة ؟ 
ـ العلاقة بين المبدع والقارئ في الأدب أساس العمل الأدبي هو تفاعل مبدعه مع متلقيه. تفاعل شرطه الأساسي كامن في مقدار ما يمكن أن يلبيه نص ما من تطلعات إنسانية تجمع بين المعرفة والمتعة. أمر له اشتراطاته من حيث التسلح بوسائط فنية تطرح نفسها بقدرات لغوية ذكية قادرة على مخاطبة ذكاء المتلقي ووعيه وحساسية وجدانه. ولعلها تؤدي ما هو أبعد من هذا حين تكون قادرة على إطلاق وعي القارئ وتحفيز نشاطه التأويلي. وأظن أن نصوصاً بعينها تقتضي قارئاً يمتلك ذاكرة ثقافية تساعده على قراءة صحيحة تحيلني إلى أصل هام في العملية التفاعلية عماده تفاعل يؤسس لوجهات نظر مختلفة تسير فيه الحوارات على نحو متشابك له أثره على القارئ من حيث الاندماج في بعض الأفكار, وحقه في عدم قبول بعضها, مع إمكانية لتقاطعات مع بعضها الثالث. وعليه أسعى في قراءاتي إلى تسليط الضوء على أكثر من مظهر فني بما يحمله من إمكانية في تحقيق تفاعل جدي مثمر بين النص ومتلقيه. 
* أين الدور الثقافي وسبل الاحاطة وفهم المصائب التي وقعنا فيها ؟ 
ـ الدور الثقافي أهميته في فهم مصابنا أظن أن مصابنا الحالي يجعل من غير المقبول استباحة حديث يشيع الآن عن موت المثقف. بل إن حاضراً مربكاً أو زمناً تتعارض فيه الآراء والنظرات كما يحدث هذه الأيام تغدو الحاجة معه ملحة لأولئك الذين يمثلون في وعي الجماهير العريضة – وفقاً لأوسكار وايلد- " معاني الإنجاز والشهرة وذيوع الصيت"بما يمكن تجييره لصالح مجتمع تحاصره الصعاب والتحديات, وليصبح هذا الجمهور الواسع فيما بعد سند المثقف الطبيعي الذي يستمد منه قوته؛ فما من شك لدي أن الأمم تضع أولويات لاهتماماتها وفقاً لمصلحتها؛ فالثقافة تصبح أولوية في بلدان مكبلة ومحاصرة وعاجزة عن تحمل مهامها كما يجب. أمر أو حقيقة تثبتها مهام كبرى كان المثقف الأوروبي في عصر الأنوار قد أداها, بما يؤكد أن ازدياداً في حجم التحديات يدفع باتجاه ازدياد الحاجة إلى مثقف مجهز بحمولة فكرية تمنحه حاسة إدراك خاصة بطبيعة الخطر والتحديات التي يعيشها المجتمع الذي يعيش فيه. 

* تؤمنين بأهمية أدب الطفل في العالم فكيف تجدين حاله واحواله عربيا وخاصة ان ثمة قصور واضح في عالم الفضائيات المهتمة بعقلية الطفل؟ 
ـ أدب الطفل. حاله عربياً هناك ميل لافت لنصوص تتقمص موقف المدرسة وأسلوبها معاَ في أدب الطفل. في وقت نعرف فيه جيداً أن الطفل حين يقبل على الأدب, فإنه يفعل هذا أملاً في العثور على المتعة والتشويق, وإلا انصرف عنه فالطفولة كما تقول ميرايل سيسيليا في كتاب مشكلات الأدب الطفلي وجدت " لتلعب وتقلد، فمن يقلص إمكانية اللعب من الطفولة كمن يبتر جزءاً منها". أما أن تمطر الطفل بوابل من قصص المعلومات والحقائق، بعيداً عن الخرافات وقصص الخيال، فإن في هذا تجاهلاً كبيراً لمشاعر الطفل وأحاسيسه. وهنا تنتفي مشروعية السؤال عن عزوف الطفل العربي عما يقدم إليه من أدب محلي. البعض يستسهل الكتابة للأطفال ويظن أن كائناً من كان قادر على مخاطبة عقل الطفل الصغير. علماً أن أبسط الأشكال الأدبية هي الأكثر تعقيداً على الكاتب، فليس كل ما يكتب للطفل هو أدب. البعض يكتب للطفل لأنه يحبه بما يذكرني بمقولة مشهورة لمكسيم غوركي يتساءل فيها " حتى الدجاجة تحب الأطفال..ولكن هل هي تعرف كيف تربيهم"؟ إذ يبقى المعيار الأساسي تلك القدرات الفنية التي يمتلكها الأديب، والنوايا الحسنة وحدها لا تكفي. الأسلوب هو عنصر أساسي في أدب الأطفال، وأيما مضمون أدبي مهما كان صحيحاً لا يمكن أن يؤثر في الأطفال، ما لم يتوفر له الأسلوب الملائم الذي يجذب الطفل من الصفحة الأولى إلى الأخيرة. ومخطئ من يظن أن الطفل يقبل على كتابة لا تمتعه. فعلى العكس من ذلك تماماً الطفل له حساسيته الخاصة والمرهفة بالفن الأدبي. ولن يضيع وقته في كتاب لا يجذبه. 
* ما سبل وصلات الاكاديمية خارج اسوار الجامعات ؟ و ما سب تطلعك بشغف إلى مساءلة كل من يقف حجر عثرة أمام تطوير وعي جديد نتجاوز به واقعنا الأليم وهل يمكن ان تكون هذه مسؤولية مؤسسات ايضا ؟.
ـ الأكاديمية خارج أسوار الجامعة..الوقوف أمام عثرات تحول دون تطوير وعي جديد..مسؤولية المؤسسات إحساس الشعوب بخطر الفناء والانقراض السياسي يحتم على مثقفيها وأكاديمييها أن يلعبوا دوراً خاصاً. أذكر هذا وفي ذهني أستاذ الأدب إدوارد سعيد الذي أبى العيش في قاعة الدرس بعيداً عما يجري في العالم. كما فعل كثيرون من أساتذة الجامعات العربية, ممن دأب على كتابة بحثية هدفها الأول الترقي في المناصب الجامعية بعيداً عن أغراض التغيير الاجماعي, ولم تكن إثارة القضايا الأخلاقية التي تمس بلادهم وقوتهم تعنيهم من بعيد أو قريب, بقدر ما تعنيهم مناصب توفر لهم مصدراً للرزق والعيش الكريم. 
وهذا يقودني لسؤالك الأخير عن مؤسسات رسمية ركز سعيد كثيراً على فكرة احتفاظ المثقف باستقلالية اللامنتمي لها. ومن هنا تحرر من فكرة عبادة الأبطال أو الانجرار إليها على نحو أعمى. وكان المتحمس بلا هوادة لحق آمن به طوال حياته. ليبقى إدوارد سعيد الممثل الأقوى للجانب الصعب من حياة المثقف. يبقى أننا نستطيع من خلال إدوارد سعيد أن نتحدث عن الجانب الأصعب في حياة المثقف, وهو تجسيد القول في العمل, وهو من يُشهد له أنه لم يكن في يوم من الأيام ممن يتحرك كالآلة الصماء وفقاً لتوجيهات المؤسسة أو النظام, وكان خياره تمثيل الحق بأقصى مايستطيع, متجاوزاً سلبية السماح لراع من الرعاة أو سلطة من السلطات بتوجيهه, وكان رأيه الحاسم في هذا الشأن أن هذه السلطات هي ( أرباب تخذل عبادها) إن آجلاً أو عاجلاً.