حساب السرايا وحساب القرايا
تاريخ النشر : 2016-06-26 05:52

نبيل عمرو:

هذا مصطلح يستخدمه العامة لإظهار الفروق الهائلة في الحسابات، ورغم أنه من إنتاج الفلاحين غالباً، إلا أنه الأكثر دقة في الوصف وتبسيط المعقد، ينطبق هذا على ما حدث في بريطانيا قبل يومين، حيث نامت البشرية على وضع وصحت على وضع مختلف.

كانت بريطانيا العامود الأهم في الخيمة الأوروبية، وكانت التقديرات تكاد تجمع على أن شعبها لن يصوت على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وهذه التقديرات شجعت رئيس الوزراء كاميرون، على الإسراع نحو الاستفتاء، ولم يعمل بمفرده لإنجاح البقاء، بل ساعده في ذلك كل زعماء العالم النافذين من ميركل إلى هولاند إلى أوباما، وما بينهما من أثرياء أوروبا وفقرائها.

ولو قرأنا التحليلات التي سبقت التصويت، لوجدنا أن معظمها إن لم يكن جميعها، تعاملت مع الأمر كما لو أنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ضرب من ضروب المستحيل، حتى لو كانت الاستطلاعات تنبئ بفارق ضئيل يتفوق فيه البقاء على المغادرة .

ويكابر على الحقيقة من يقول إنه توقع فوز دعاة المغادرة، أو إنه تخيل مجرد تخيل أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد، إذا كان باراك أوباما هو من قال في معرض دعمه الصريح للبقاء إنه لا يتخيل أوروبا بلا بريطانيا، غير أن النتائج جاءت مخالفة تماماً، وهنا انطبق المثل العامي على الحالة، فحساب السرايا الذي هو حساب الصالونات والعواصم والمراكز الرسمية لصنع القرار قد فشل أمام حساب القرايا، أي سكان الأرياف بمن في ذلك اللاجئين الذين عاشوا عقوداً وهم يحملون الجنسية البريطانية، فحسم هؤلاء وأولئك المعركة ليضعوا بريطانيا القلقة أصلًا من وجودها في الاتحاد، أمام وضع غامض لن يقرر مزاياه من عدمه أرباب استطلاعات الرأي، ولا متخصصو مراكز البحوث ولا حتى مؤسسات الدراسات التابعة لأرقى المعاهد والجامعات والاستخبارات، إن الذي سيقرر ما إذا كان الذي حدث إيجابياً أم سلبياً، هو نسبة الندم في التصويت مع أو ضد، فإن أظهرت الشهور القادمة مؤشرات واضحة تدل على تضرر المواطن الانجليزي من الانفصال، ستعرف ساعتئذ الحقيقة مجردة دون رتوش والعكس بالعكس. إذا فلننتظر دون أن تجرنا ردود فعل الصدمة التي هي دائما حالة استثنائية يزيلها الاستقرار بعد زوال مفعولها.

إلا أن بوسعنا قراءة بعض الدروس العامة مما حدث...

أولها زحف وباء جهل النظم المستقرة لأمزجة شعوبها، كان هذا أحد أمراض النظم في العالم الثالث، وها هو يطل علينا من قلب بريطانيا التي تعتبر من أعرق النظم فيما يسمى بالديموقراطية الحديثة، وبوسعنا كذلك أن نتوقع أحداثاً مماثلة حتى في أمريكا ذاتها فلربما يكون فوز ترامب شبيهاً بالحالة البريطانية.

ودرس آخر بالغ الأهمية وهو استيقاظ الشعور القومي كرد فعل على العولمة، ذلك أن حنين الإنجليز لإمبراطوريتهم القديمة التي كانت لندن عاصمتها، طغى على كل الحسابات الرقمية والسياسية لتجد قطاعاً مهماً من مواطني الإمبراطورية يقولون نريد بريطانيا القديمة حتى لو كان ذلك على حساب اقصادنا ورفاهنا.

ودورس كثيرة سنكتشفها في قادم الأيام والأحداث.

وكلما حدث أمر كهذا يتساءل العرب ما هو انعكاساته علينا، وأجازف بالقول وبضمير مستريح " لا شيء" فنحن أبطال التكيف مع الشيء وضده، وهذه مهنة فعلناها في بلادنا وسنفعلها في بلاد الآخرين سواء تغلبت حسابات القرايا أم حسابات السرايا..

كاتب وسياسي فلسطيني:

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لموقع " ريال ميديا "