دعهم يمثلون أنفسهم
تاريخ النشر : 2015-01-26 18:55

 إحسان أبوشرخ:

راهن الغرب ومستشرقوه علي عجز الشرق المستمر عن إدارة نفسه بنفسه، ورسخ هذا المعني في كل ما ذهب إليه في التعامل معه والسيطرة عليه، وبعد مرور هذا الزمن الممتد من بداية الانهيار الذي لحق بالشرق يجدد نفسه هذا المعني، ويتفاقم عند كل محاولة للخروج منه من قبل الأجيال الراغبة في الولوج إلي ساحة الحرية و الإنعتاق من التبعية والاستعمار المتجذر والمتجدد.

ويبدو أن هذا الغرب قد أخذ بعين الاعتبار عند تطبيقه لذلك المعني ما ذهب إليه رينيه جيرار في كتابه العنف المقدس، حينما قال أن الجماعات عندما تصل بها أزماتها إلي حد العجز تتجه إلي ما يسميه الحل الذبائحي أو الإبدال الذبائحي الأول، وهو البحث عن ضحية من بين أفرادها وتقديمه كقربان لصالح الجماعة ككل باعتبارها هي الأهم والاسمي، من أجل حمايتها من آثار تلك الأزمة المحاكمية، وبالتالي يكون الغرب المستعمر قد ضمن لنفسه أقصي درجات السيطرة الممتدة علي شعوب الشرق وثرواتها، فهو حينما اعتمد نظرية الفسيفساء في فهمه وتفسيره للمجتمعات العربية أدرك بان تعزيز سلطة رئيس القبيلة سيؤدي بالضرورة إلي إحلال الضحية الفرد وفق نظرية رينيه بالمجتمع ككل، باعتبار أن تلك المجتمعات هي الأدنى والأقل أهمية من رئيس العشيرة أو شيخها وفق الواقع، لذلك اعتدنا أن نري تلك الأنظمة وهي تدوس شعوبها لصالح الخلود علي مقاعد الخلافة السياسية، إنها مسألة رياضية سهلة ولا تستغرق أي مجهود لإدراكها، لكن حلها يستغرق مساحة كبيرة من تاريخ شعوب الشرق الأوسط التي تعيش الضياع ، فالإغراق في وحل الجهل والاغتراب والانغلاق ينتج العنف والذبح ومزيد من العبودية التي تصيب كل مستويات الجماعة.

هذا التطور الاستعماري في الفهم والأدوات والأشكال صنع من يسانده ويتحالف معه من الداخل، بالرغم من أن ذلك الحليف القبلي صاحب اللباس الديني أحيانا والأمني أحيانا أخري يعلم أنه مجرد أداة هيمنة علي بني جلدته، وان المحصلة لهذا الإسناد فتات من امتيازات الرفاهية وبعض من الأسماء الرنانة المؤقتة.

أدرك الغرب الشرق، ولم يستفد الشرق من فهمه لنفسه وللمستعمر وارتضت أعلامه هذا الحال منذ بدأت المعركة، و لم تفلح حتى الجامعات في تنمية إدراكه وان عبأت وعيه بمعرفة عجز عن الاستفادة منها، وقد تجلى هذا المعني في تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة وواقعها، فقد شكلت تلك الثورة في حقبة زمنية ما أملا حقيقيا لشعوب الشرق ولكل حر في العالم بأسره، ليس لأنها مجموعة مقاتلين تسعي لاستردا  قطعة أرض مسلوبة، بل لأنها كانت تعبير حي متناقض مع تلك المفاهيم الغربية وغاياتها، مع ذلك تراجعت تلك الثورة بتآمر مفضوح من أرباب المصالح العربية التي تشمل تلك القبائل وأنظمة الفرد الواحد، إلي أن وصلنا لمرحلة فلسطينية لا تتمايز عن تلك الأنظمة العربية ووجدناها تبتعد أكثر من اللازم عن مفاهيم التحرر، فأصاب العطب الكل الفلسطيني، أحزابا ومؤسسات وانتشرت مفاهيم الذاتية والتسلط، وارتهنت رئاسة الحكم الذاتي للدولار ورهنت معها منظمة التحرير وفصائلها، وأصبحت تمارس العنف الجمعي بشكل علني وواضح علي الفرد الفلسطيني وكذا الجمع، وضد كل من يحاول مخالفة رأي إله الحكم الذاتي وقياداته المحلية، فكيف لرئيس سلطة أو دولة جاء من رحم معادلة الاستعباد أن يكون ديمقراطيا ؟! أو أن يعمل لأجل مصلحة لا تعزز سلطته ؟! وكيف للجنة تنفيذية مثلا أن تضم ثوريين؟ وكيف لقادة فصائل لا يملكون سوي المال السياسي أن يتحدثون بلسان حال الشرائح أو الجماهير التي تعاني فقر الثقة بهم ولا تجد منهم سوي التبرير والعجز، ولو أمعنا النظر في التجربة الفاشلة  للمقترح العربي في حظيرة مجلس الأمن، وشروط الرئاسة على شعبها للانضمام إلى الجنائية الدولية سنجد ما يلزمنا لفهم مسعى  الرئاسة في التضحية بمصالح شعبها لأجل أن تعيش سلطتها الساعية لدولة توم وجيري.

 

وفي خلاصة المسألة احتسب الغرب ومن تحالف معه أن مردود أدواته سيكون فقط على تلك الشعوب المستعبدة وأنه بمنأى عن آفات ورواسب تلك الأدوات، وادعى لنفسه انه تمثال الحرية في صحراء التخلف ممنوع علي احد المساس به، متجاهلا انه هو من حول الأرض الخضراء إلي أرض جرداء لا يسكنها إلا الوحوش التى ستدفعها فطرتها يوما ما إلي الانقضاض على غريمها وان حال بينها وبينه الخوف لبرهة من الزمن، ومتناسيا أن الحرية وحدها هي أداة تعزيز مفاهيم السلام وأن العدالة هي صاحبة الولاية لفرض معاني احترام الآخر، وأن الحضارة المبنية علي باطل سيكون مصيرها الاندثار من حاضر وتاريخ الأمم، وأن صناعة الجهل والتقليد والفاقة لا تنتج تنمية أو حرية له.

إن تلك المعاني يجب أن تنصهر في وعي كل مبدع مثقف يحلم بالتضحية من اجل شعبه لإخراجه من استغلال الذين أدمنوا علي كحول الامتيازات أولا ومن ثم تلك الدول التي يعملون لحسابها، و أن يدرك جيدا هذا التشخيص ويستند إليه في معركته الداخلية والخارجية، واستغلال تلك الأحداث التي تدور رحاها في ارض الشرق والغرب لإيصال رسالة واحدة هي أن احترام الآخر هو مفتاح الأمن والسلام، وترجمة ذلك يكون برد المظالم وحل القضية الفلسطينية والتوقف عن سياسة الهيمنة والتدخل في رغبات الشعوب في الحرية والتطور، والالتحاق بركب الحضارة القائمة علي العدل وتقديس كرامة الإنسان لا امتهانه أو امتهان معتقداته،  لقد أصبحت الصورة أكثر وضوحا فهي معركة جيل يطمح بالسرمدية يمارس فعل فاضح في مصير عام، وجيل آخر لا يمتلك سوي الثورة ودك الطغاة.

محامي وكاتب فلسطيني:

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لموقع " ريال ميديا "