الفكر هو حركة الجسد كلّه والفلسفة هي حركة العقل والشّعر بَصَرٌ ــ بصيرةٌ
تاريخ النشر : 2022-12-27 01:18

أجرى الحوار : أزراج عمر*:

للشاعر والمفكر الصديق أدونيس حضور وتأثير عميقان في الحركة الفكرية والشعرية والنقدية العربية المعاصرة، وبلا شك فهو علامة حضارية بامتياز. لقد رشّح أدونيس لجائزة نوبل أكثر من مرّة، وهو جدير بها، كما نال جوائز عالمية عدة، منها جائزة غوته الألمانية الشهيرة تقديراً لدوره الريادي في تحديث الشعر العربي والانتصار للفكر التنويري.

 ففي هذا الحوار الذي خص به مجلة "مثاقفات" حصرياً، سألنا أدونبس حول علاقته بالغرب وثقافته، وحول علاقة هذا الغرب بالآخر غير الغربي، وقد بدأنا حوارنا معه  بالسوال الآتي:

• على مدى سنوات طويلة وأنت تعيش في باريس / فرنسا، وهناك اختبرت، بلا أدنى شك، المجتمع الفرنسي وثقافته. فكيف تنظر الآن إلى  هذه التجربة الطويلة وكيف تلخص لنا حصيلتها، وماذا وفّرته لك كشاعر وكمفكر ناقد؟ وهل غيّرتك هذه التجربة وكيف؟

 

- يصعب عليّ القول إنّني "اختبرت المجتمع الفرنسيّ وثقافته". أكتفي بالقول إنّ إقامتي فيه زادتني معرفةً بأوضاعه، وفهماً لمشكلاته. وهي معرفةٌ عمّقَت استبصاري في حركيّته الإبداعيّة، وفي نظرته، عملياً، إلى "الآخر" المختلف، أو الأجنبيّ، أو الغريب.

 

لا أشكّ اليوم بأنّ للآخر العربيّ الإسلاميّ، وبخاصّة المبدع، في الثقافة الفرنسيّة المؤَسَّسيّة، جامعاتٍ ودورَ نشر، ووسائلَ إعلام، "مكاناً" ثانوياً، قياساً إلى أمكنة الآخر غير العربيّ. وأشدِّد على عبارة "المؤسّسيّة" لكي أستثني أفراداً فرنسيين يخترقون المؤسَّسة، وهم بالنّسبة إليّ، يمثّلون الجانب الإنسانيَّ الخلاّق في الثّقافة الفرنسية، لكن لا تأثير لهم عليها. إضافةً إلى ذلك، ينبغي عليّ أن أقول إنّ فرنسا "مكان مدنيّ" يستطيع الغريب "الآخر" أن يعيش فيه حراً وعلى نحو أفضل ممّا يتيح له، غالباً، المكان نفسه الذي وُلِد فيه. وتلك هي حالتي، شخصياً.

 

ما "الأسرار" الكامنة في هذه "الفجوة" بين البنية المؤسَّسيّة في فرنسا، والحركيّة الإبداعيّة فيها؟ تلك هي مسألة تشغلني، حقاً. في هذا الإطار، تحديداً، يمكن القول إنّ في أوروبا التي تحمل اسم امرأة تنتمي إلى الأرض التي أنتمي إليها بالولادة، بلداناً أخرى قد تكون أكثر احتفاءً بالآخر المختلف من فرنسا ذاتها.

 

• صدر لك كتاب ضخم بعنوان "الغرب"، وقد قرأته كاملاً واستغرق مني ذلك وقتاً معتبراً، وغالباً ما عثرت فيه على نقدك للغرب السياسي والأيديولوجي، والأدبي والفكري النخبوي فمتى سنقرأ لك بعض تفاصيل "الغرب الشعبي"؟ وهنا أسألك: ما هو الغرب إذاً؟ 

 

- "الغرب"؟ إنّه أنواع كثيرة من الغرب. كمثل "الشّرق" الذي هو أنواع كثيرة من الشّرق. وكلاهما، في العمق، مفهوم سياسيّ ــ اقتصاديّ. يتمثّل الغرب الرّاهن في ثلاثة آفاق: أفق الثقافة، وأفق الصّناعة، وأفق الحرب.

 

وما يهيمِن اليوم، سياسةً وثقافةً واقتصاداً، وعلاقات، يتمثّل في أفق الحرب الذي يُعَولِمُه النِّظام السّياسي الأميركيّ ويقوده. وفي هذا نجد العلامة الأولى لظاهرة المرض الأوروبي، ثقافياً خاصّة.

 

الهيمنة الأميركيّة على أوروبا نوع آخر من الغزو. وأفق الحرب يكاد أن يبتلع الثقافة الأوروبيّة، والاقتصاد الأوروبيّ، ويكاد أن يحوِّل هذه القارّة إلى مجرّد "أداة" تابعة، تسبح في أفق الحرب ــ الأفق نفسه الذي طُمِسَ فيه حتّى المَحْو، السّكان الأصليّون في القارة الأميركيّة الشمالية التي تُسمّى الآن "الولايات المتّحِدة الأميركية".

 

الإبادة "الهيروشيميّة" ــ (إبادة الإنسان البريء) هي الآن "الفنّ" الذي يمارسه النّظام السّياسي الأميركيّ، في علاقاته مع العالم كلّه حتّى مع أوروبا. أوروبا الأبجديّة، والإنسان ــ أخاً للإنسان، فيما وراء الاقتصاد والسّياسة، فيما وراء البياض والسّواد وبقيّة الألوان الأخرى التي "يبتكرها" ذلك "الفنّ".

 

وفي هذا الإطار تحديداً لا أتردّد في القول إنّ هذا النّظام الهيروشيميّ، الذي قام على إبادة قارّة بكاملها، هو العدوّ الأول لأوروبا نفسها ــ بالمعنى الإنسانيّ الحضاريّ.

 

بلى، إنّ في تبعيّة أوروبا لسياسة النّظام الهيروشيميّ الأميركيّ، خيانة لنفسها ولتاريخها ولرسالتها، وفيها وفقاً لذلك، خيانة للإنسان وقيم الحريّة والإبداع والعمل على بناء العالم في اتّجاه الأعمق والأجمل والأفضل.

 

وفي هذا كلّه علينا أن نستعيد، تأمّلاً واعتباراً، ما قاله كيبلينغ: "الشّرق شرقٌ والغربُ غربٌ ولن يلتقِيا".

 

• قرأت لك مرة نصاً نقدياً تتحدث فيه عن مسيحية الشاعر الفرنسي شارل بودلير وعن السمات الشرقية لدى الشاعر أرثر رامبو. كيف تفهم هذه الثنائية وهل هي طارئة أم أن داخل الثقافة الفرنسية ثنائية التأرجح الغربي المسيحي / الشرق؟ وما هي  مصادر  هذه الثنائية؟

 

- قرأت رامبو بلغة الشعر العربيّة وبفكر التّصوّف والفلسفة في اللغة العربيّة.

1  ــ الشعراء العرب (أبو نواس، أبو تمّام، المعرّي ــ تمثيلاً لا حصراً) رفضوا الفصل بين الفكر والشعر كما فعل الإسلام، مؤكّدين أنّ الشعر بمعناه الإنسانيّ الخلاق فكر، وأنّ الفكر بمعناه الإنسانيّ الخلاق شعر. 

 

2 ــ التّصوّف العربيّ غيّر مفهوم "الله"، ومفهوم الهويّة، ومفهوم "الآخر"، داخل الثّقافة العربيّة في هيمنتها الفقهيّة ــ الشرعيّة.

 

3 ــ الفلسفة العربيّة، ممثّلةً بابن رشد، سمّت "الآخر" (الكافر ــ أرسطو) المعلِّم الأوّل، وقالت: لا يمكن تفسير العالم بالدّين، وحده، ولا بدّ من الاستعانة بالعقل.

 

ثلاث ثورات كبرى في تاريخ الشّعر ــ الفكر، حقّقها العرب، لكن رفضها النّظام الإسلامي العربيّ باسم الفقه ــ الشّرع، بينما أضاءت الفكر الأوروبيّ كلّه، وبينهم رامبو نفسه. وعلى هذا المستوى، لا أعدّ رامبو  فرنسياً بالمعنى الذي يُعدّ به بودلير أو مالارميه. إنّه "الآخر" داخل "الذّات" في بنيتها العميقة.

 

ثمّة أشعّة خلاّقة تجيئنا من شموس داخليّة كانت تشعّ في فضاء اللغة العربيّة، أطفأتها المؤسّسةُ الدينيّة ونظامها.

 

لحسن حظّي ولسوئه في آن لا أزال آتي وأذهب في فضاء هذه الشّموس.

 

الإنسان هو معنى الكون

وبهذا المعنى أيضاً لا أعدّ الشعر والمتصوّفين والفلاسفة الذين أبدعوا بالعربيّة مسلمين، بالمعنى السّائد فقهياً وشرعياً وسياسياً. إنّهم مُبدِعون فيما وراء الدين والمؤسّسة، وفيما وراء الفقه والشّرع والسّياسة خاصّة. 

 

الشّرق، على هذا المستوى، كمثل الغرب: مفهوم سياسيّ ــ اقتصادي وليس مفهوماً ثقافياً فنياً. في الفنّ، في الإبداع: لا شرق، لا غرب.

 

الإنسان في ذاته هو معنى هذا الكون الأرضيّ الواحد، وهو هذا الكون ذاته في صورته العليا.

وعلينا في هذا كلّه أن نتذكّر دائماً أنّ أوروبا العلمانيّة عرفت شعراء كباراً دينيين بالمعنى الكنسيّ، بدءاً من دانتي الإيطالي وانتهاءً بكلوديل الفرنسي، تمثيلاً لا حصراً، لكنّنا لا نرى أيّ شاعر عربي كبير كان مسلماً بالمعنى الفقهي الشرعي المؤسّسي. الشعر الذي هو أعلى ذروات التّعبير عن جوهر الإنسان بقِي عند العرب أوسع أفقاً، وأعمق إنسانيّة من الشّعر في الغرب. والمعرّي، على سبيل المثال، كان أعمق إنسانيّة وشعراً، من دانتي نفسه الذي كان "كَنَسِياً" و"عنصرياً".

 

• تعتبر من بين الأوائل، بعد جيل رواد النهضة في المشرق العربي طبعاً، في مجال ترجمة بعض أهم نصوص شعراء فرنسا إلى العربية، فهل لا تزال تواصل  هذا النشاط  الآن؟ وكيف تنظر إلى واقع الترجمة الأدبية والفكرية والعلمية في بلداننا؟ 

 

- ينبغي على الشاعر أن يتعرّف على الشعر الذي يُكتَب بلغات أخرى، لا بالقراءة وحدها، بل بأن يعايش النص في سرير ولادته، في لغته الأصليّة، ولا يتمّ له ذلك إلا بالترجمة. وهكذا أسمّي ترجمة الشّعر شعراً آخر.

 

ويؤسِفني أنّني لم أعد قادراً على القيام بهذه التّرجمة المعايَشة من داخل، لأسباب عديدة، بينها اضطراري الذي تفرضه الحياة لأن أخصِّص معظم وقتي لمتابعة مشروعي الكتابيّ الخاص.

أمّا التّرجمات التي تتِمّ الآن والتي يتاح لي أن أطّلِع عليها، فإنّني بعامّة أحترم الجهد الذي يبذله المترجم واهتمامه بشعر الآخر المختلف، لكنّني، بخاصّة، لا أرى في معظم التّرجمات التي أطّلع عليها، أيّ قيمة شعريّة بالمعنى الخالص، وأغضب في قراءتها أكثر ممّا أرضى.

 

 

• حسب علمي فقد درَست في ألمانيا كما ألقيت محاضرات في مؤسسة الكولوليج دي فرانس العريقة، وساهمت في حلقات دراسة منفردة وجماعية بجامعة كامبريج البريطانية وفي جامعات أميركية عدة وغيرها في أوروبا / الغرب. فهل كان نشاطك الزخم هذا ضمن إطار ممارسة التعريف بإنتاجك الشعري والفكري وبالإنتاج الثقافي العربي، أم ضمن هذا الإطار بالذات ومن أجل اكتشاف الذات في ثقافة الآخر الأوروبي / الغربي أيضاً؟ 

 

- كان ذلك، بعامّة، توكيداً على الضرورة الكيانيّة للمثاقفة. ففي تراثنا العربيّ الخلاّق أنّ البشر ليسوا قسمين: مؤمنين وكافرين، بل البشر وحدة إنسانيّة، وهم ينقسمون إلى "ذات" و"آخر". ولا تقوم "الذات" إلاّ بالآخر.

 

" الآخر" هو  "أنا"، قالها هذا التّراث منذ زمن بعيد، وقبل أن يعيد صياغتها رامبو في قوله: "الأنا هي آخر".

 

وطبيعيّ إذاً أن تكون معرفة الآخر المختلف جزءاً جوهرياً من المعرفة التي تكوِّنها الذّات.

 

• في كتاباتك حول الشعر وفي مجال النقد الفكري، وبخاصة في كتابك العمدة "الثابت والمتحول"، يتردد مصطلح الحداثة /   Modernity كثيراً، ولكن  هذا المصطلح يشير إلى الشرط التاريخي والمؤسسات التي أنتجت الحداثية/ Modernism   في أوروبا / الغرب. نفهم من المناقشات التي تجريها في كتاباتك أنك تتحدث غالباً عن الحداثية Modernism / في الثقافة العربية، فهل يمكن أن تسبر لنا الشروط والمؤسسات التي أنتجت ما تطلق عليه بظاهرة الحداثية في الشعر والفكر العربيين الإسلاميين؟

 

- الحداثة هنا في القديم العربيّ ترجمة فنيّة ــ فكريّة مُضادّة للمقولة الدينيّة التي تصف "الإحداث"، دينياً، بأنّه "بدعة"، أي ضلال، وخروج من الدّين الذي هو جوهرياً "قديم". وقد عُمِّم هذا القول الديني على الثّقافة العربيّة برمّتها، شعراً وفِكراً.

 

ونلاحظ هنا أنّ عبارات "الحادث" و"الحديث" و"الإحداث" و"المُحْدَث" هي في أصولها "دينيّة". وكان المتديِّنون وأهل السّلطة يسمّون الشّعر الذي يخرج عن "عموده" ــ بالمعنى الفني، "الشعر المُحْدَث" رفضاً له، بوصفه "إحداثاً" أي بوصفه خروجاً على الشّعر القديم.

 

وتِبعاً لذلك، نرى أنّ مشكلات الحداثة والشّعر والفكر أُثيرَت عند العرب، منذ القرن الثّامن الميلاديّ، أي قبل أن تُثار في الغرب، بأكثر من عشرة قرون، وكان من الطبيعي أن تُناقَش الحداثة، عندنا، بوصفها مشكلة عربية، أولاً، لا أن تُنقَل من ظروفها وأسبابها في أوروبا، نقلاً آلِياً عن الغرب، كما فعل أهل السّلطة وثقافتها عند العرب.

 

وقد أنتج هذا "النّقل" ركاماً من المقولات والمفهومات لم يؤدّ إلا إلى مزيد من التبعيّة لأفكار نشأت في أوضاع وتراثات تختلف، جذرياً وعلى جميع الصّعد، عن أوضاع العرب وتراثهم. وهكذا أنتجنا شعراً حديثاً استناداً إلى حداثة غربيّة، بلغات غربيّة، وقضايا ومفهومات غربيّة.

 

والقاعدة الإبداعية البسيطة الأولى تقول لنا: لا نستطيع أن نخلق حداثة عربيّة إلا في تجاوز قدامتنا العربيّة، ولا نستطيع أن نخلق جماليّة شعريّة حديثة بلغة نجهل تاريخها الجماليّ القديم.

 بودلير، رامبو، مالارميه... حديثون، في لغتهم الفرنسيّة الخاصّة، فلماذا تكون حداثة العربيّ منبثقة منهم، ولا تكون حداثة تنبثِق من داخل لغته ذاتها؟

 

وهكذا تحوّلت الحداثة عند العرب إلى نوع من الصّناعة تُستورد بشكل أو بآخر، ولا تُبتكَر أو تُعجَن وتُصاغ بطبيعة الحياة العربية نفسها، وطبيعة اللغة العربية وشعرها، وطبيعة العرب وتاريخهم وحضورهم في العالم؟ 

 

كيف يمكن للشاعر العربيّ أن يكتب شعراً حديثاً بلغة لا يعرف شعرها القديم الذي كُتِب بها؟

 

• ربما، أنت من القلة القليلة جداً بين الشعراء العرب الذين لهم قلق فلسفي ومرجعية فلسفية شعرياً ونقداً فكرياً وأدبياً؟ فكيف ترى علاقة الشعر بالفلسفة؟ وكيف يمكن للشعر أن يكون رؤيا وفي الوقت نفسه نقداً للبنيات الاجتماعية ولسجلها الرمزي؟

 

- حين نقول فلسفة، نقول: نظام، منهج، نَسَق، نظريّة، مذهب، نمط، طراز، جهاز، إلخ... ونقول: الفلسفة جواب.

 

وحين نقول شعر، نقول حسّ، حدس، رؤية، مخيّلة، حلم...إلخ، نقول الشيء في فرادته، وهي فرادة متحوّلة. ونقول، تبعاً لذلك: الشعر سؤال.

هكذا أفضّل كلمة فكر.

رفض الفكر في الشعر يجيء من الدين. وإذاً، لا أواجه الشعر بروح الفلسفة (العقل، المنهج، الجواب، اليقين) بل بروح الفكر، التأمّل، السؤال. الفكر هو حركة الجسد كلّه. الفلسفة هي حركة العقل. الشّعر بَصَرٌ ــ بصيرة في آن، وفي وحدة كاملة. الحياة نفسها تقول: خُلِقَ الإنسان شاعراً.

الدين، على النّقيض من الحياة، يقول: خُلِقَ الإنسانُ عابِداً.

(وما خلقتُ الإنسَ والجِنَّ إلاّ ليعبدون)، تقول الوحدانيّة الإسلاميّة، مكَرِّرةً الوحدانية اليهوديّة، والوحدانيّة المسيحيّة.

 

الشعر سؤال، وهو بوصفه سؤالاً، فكر.

رفض الفكر في الشعر يجيء من الدّين. الفكر للدّين وحده، تقول النبوّة. والشعرُ ضلالٌ وغواية. ولا بدّ إذاً من أن يُفصَلَ عن الدّين. كان الشاعر قبل الإسلام يقول الحقيقة. بعد الإسلام صار ضلالاً وغواية. وإذاً، يجب عزله كلياً عن عالم الفكر، عالم الحقيقة، عالم الدّين: الدّين، وحده، يقول الحقيقة.

 

والدّين وُلِدَ سلطة: وُلِدَ، إذاً، عنفاً.

الدّين تعليم، لا استبصار. تنظيم لا حريّة. رفضٌ قاطع: نعم، لا. صراط، لا فضاء.

الشعر يولد سؤالاً.

 

الإنسان في الشعر مُتسائل، لا موقِنٌ كما هو الشّأن في الدّين.

مَدارُ الصّراع في المجتمع الإسلاميّ هو تغيير السّلطة، لا تغيير المجتمع. وهو إذاً، في عمقه صراع ديني وليس سياسياً واجتماعياً، ثقافياً واقتصادياً. السياسة، الاجتماع، الثّقافة، الاقتصاد، ثياب، أقنعة، أدوات، أشكال ووسائل....إلخ.

 

هكذا لا يتقدّم المجتمع الإسلاميّ، لكنه يدور حول نفسه، إلى أن "يحظى" بمَن يشبه الخليفة المؤسِّس. وحينذاك تُحَلُّ جميع الأمور. لأنّ الحلول كلّها، من الآن إلى قيام السّاعة، جاهزة في "كتاب الله": الوحي الإلهيّ الأخير. لا وحْيَ بعده، ولا نبوّة. وهو إذاً جامع للحقائق كلِّها، من بداية الكون إلى نهايته.

 

والنّتيجة، على مدى أربعة عشر قرناً، هي التّالية: 

"لا إكراهَ في الدّين" آيةٌ تحوّلَت في الممارسة الحيّة إلى نقيضها: "لا إكراهَ إلا في الدّين"!

نعم، لا يتغيّر المجتمع "الإسلاميّ"، بل يتراكَم، ويتضخّم، ويمرض، ويعجز، وينهار ــ ويعيش في انهيار متواصِل. ولهذا كانت المشكلة الأولى في الشعر العربيّ تتمثّل في الدين الذي هو الثقافة العربيّة، بالمعنى الشّامِل، حتّى في جزئيّات الحياة اليوميّة.

 

وإذا كان الإنسان خُلِقَ حراً، كما يقول الشعر، فقد وصل في التطوّر، عملياً، إلى أن يصبح "عبداً"، "عابِداً". "وما خلقت الإنسَ والجِنّ إلاّ ليعبدون"، تقول الوحدانية في صيغتها الإسلاميّة، كما أشرت سابقاً. واللهُ يسمّي مَخلوقيهِ: "عبادي".

 

البشر في الوحدانيّة هم أوّلاً "عبيد الله"، فكيف نفسِّر، إذاً، قولَه: إنّه "خلقهم على صورته"؟

هكذا، بدئيّاً، يبدو أنّ وجود الإنسان على هذا الكوكب الأرضيّ هو، في حدّ ذاته، سؤال. بل ربّما كان "سؤال الأسئلة".

 

الجواب الأوّل الذي قدّمه الإنسان لم يكن دينياً، بل كان "فنياً" وفي هذا الأفق، يمكن القول إنّ الإنسان وُلِدَ شاعراً ــ لا "مُتَديّناً" أو "عابِداً" ــ لأنّه وُلِدَ سؤالاً، لا جواباً.

 

الدين هو الذي فرضَ الجواب. وعملُه الأوّل هو أنّه ألغى السّؤال. لا سؤالَ في الدّين. والوجودُ عبادة وليس فناً. وهذا هو الصّراع التناقُضي العميق الكينونيّ في داخل الإنسان. الدين يقول له: أنا الجواب.

 

والشعر يقول له: العالَم سؤال. والإنسان هو كينونياً، سؤال.

فالشعر، إذاً، والفكر، بعدان أخَوان يشكّلان جوهراً واحداً: إنّهما كمثل البرعُم وعطره، كمثل الغُصن ونَسغِه.

كمثل الشّمس ونورها.

 

• في عدد من مكالماتنا التي تبادلناها هاتفياً أحسست أنك - وربما أنت محقّ في ذلك -  لا ترى بلداننا بصدد ممارسة وصنع أي نوع من المثاقفة مع" الآخر المتعدد": الأوروبي /الأميركي أو الأميركي اللاتيني أو الأسيوي في الشرق الأقصى. إذا كان الأمر كذلك فما هو تصورك لشروط  وكيفيات قيام  المثاقفة؟

 

- لكي تتمّ المُثاقفة بين ثقافتين لا بدّ من أن يكون لكلّ منهما إبداعات مختلفة خاصّة، تقولها للثّانية. وهكذا يتمّ بينهما التّفاعل ــ العطاء والأخذ.

 

لكنّ السؤال هو: ماذا لدى العرب اليوم؟ كان لهم ما يعطونه في الماضي، وقد أعطوا كثيراً، وأخذوا كثيراً. اليوم لا يأخذ العرب، وإنّما تُملى عليهم الأفكار والأشياء إملاءً. وليس لديهم ما "يعطونه" إلاّ الثّروة والفضاء الاستراتيجي. أقول: "يعطونه" ويا ليتهم "يتاجرون به"، لكي يأخذوا على الأقلّ ما يُطَوِّر بلدانهم، وما يوصلهم إلى الاستقلال رفضاً للتّبَعِيّة التي تمحو حتّى هويتهم.

"المُثاقَفة"، اليوم، هي في العمق أعمال يقوم بها أفراد عرب يتبعثرون في أنحاء العالم ومؤسّساته المتنوِّعة. غير أنّهم، موضوعياً، جزء من الحركيّة الإبداعية في الغرب، وينتمون إليه، إبداعاً، أكثر ممّا ينتمون إلى بلدانهم. وهم كثيرون في جميع الميادين، وخلاّقون في جميع الميادين، وفي هذا ما يزيد في عمق المأساة العربيّة، ويجعلها مأساة كونيّة.

لقد دمّرَتنا ثقافة الغرب بثالوثها الجحيميّ الليبراليّ، الحربيّ، الفاشيّ.

 

أظنّ أنّ على الأوروبي، اليوم، كمثلنا، نحن الذين "يحشرنا" في ما سمّاه "العالم الثّالث"، أن يسأل نفسه هو أيضاً: مَن أنا؟ ماذا فعلت؟ ماذا قلت؟ في كلّ ما يتعلّق بالبلدان التي غزاها، أو استعمرها، أو دمّرها، على هواه، أو "بناها" على هواه أيضاً. وعليه أن يتذكر في هذا كلّه أنّ خلاّقي الطّبيعة الذين سمّاهم الدين "وثنيين" لا يزالون، حتى الآن، أعظمَ بما لا يُقاس، غالباً، من خلاّقي الوحدانيات الثلاث، خلاقيّ ما وراء الطّبيعة. وعليه أن يتذكّر، تبعاً لذلك، أنّ "الكافرين" هم الذين خلقوا حضارة "المؤمنين".

 

وعليه أن يتذكّر أيضاً وأيضاً أنّ "الأوائل" (الكفّار) احتضنوا الكون كلّه، وأنّ "الأواخر" (المؤمنين) يفرِّقون الكون كلّه، ويمزِّقونه، ويُفسِدونه.

إنّ ما يقوم به، اليوم، الغرب الأوروبّيّ ــ الأميركيّ، في العالم كلّه، باسم "الجنّة" هو نفسه "الجحيم"!

 

• أخيراً .. كيف يعيش الآن الشاعر والمفكر أدونيس حياته اليومية في باريس وفي رحلاته هنا وهناك في العالم العربي وفي البلدان الأخرى؟ وهل ثمة  منعرج شعري أو فكري جديد لديك وما هو؟

 

- أدونيس يعيش في مثلّث كينونيّ تتمازج فيه المأساة بالفرح، والفقر بالغنى، والموت بالحياة. أحياناً يبدو كأنّه هاوية لا قرارَ لها، وأحياناً يبدو كأنّه فضاء لا حدود له. وبين الهاوية والفضاء يتمزّق، ويعلو، ويكتب. وأحياناً يغنّي:

 "ليس بيني وبين البلاد التي جئتُ منها،

   سوى الأبجديّةِ،

   قلت لحِبْرِ الفضاءْ:

   نسَبي في كواكِبَ لم تُكْتَشَفْ،

والطّريقُ إليَّ الهواءْ".

*النهار العربي: