الانتفاضة الفلسطينية والحراك السياسي
تاريخ النشر : 2015-10-26 02:57

أحمد سمير القدرة*:

منذ اللحظات الأولى لاندلاع المواجهات مطلع أكتوبر بين الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال الإسرائيلي, والتي جاءت رفضاً لكافة الممارسات والإجراءات التي تنتهجها وتتبعها حكومة الاحتلال تجاه المسجد الأقصى وسلسلة الجرائم المستمرة بحق الشعب الفلسطيني, تسعى الأطراف الدولية لاستعادة الهدوء ونزع فتيل الأزمة الحالية تجنباً لتطور الأوضاع إلى حد عدم القدرة السيطرة عليه, وهذه المساعي وتلك التحركات أخذت عدة أشكال سواء اتصالات مباشرة أو اجتماعات أو زيارات, والتي بدأها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومن ثم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري, واجتماعهما مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلاً على حدى, واجتماع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع الملك الأردني عبد الله الثاني, إلى جانب مواقف كل من فرنسا ممثلة بسفيرها في الأمم المتحدة فرانسوا ديلاتر بمشروع قرار يدعو إلى توفير مراقبين دوليين في الأماكن المقدسة, ومندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين من خلال دعم المطالب الفلسطينية بتوفير الحماية الدولية, واللجنة الرباعية, هذه المساعي الدولية جميعها تطالب وتدعو إسرائيل إلى عدم المساس وتغيير الوضع في المسجد الأقصى, دون مطالبتها بالكف عن ممارساتها وإجراءاتها العنصرية والتهويدية وارتكاب جرائم حرب والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني, وتوافق الموقف الأردني مع الفلسطيني من خلال دعمه ومساندته في حقوقه وتحركاته السياسية والدبلوماسية والقانونية والميدانية, والرفض الأردني المستمر لأي مساس بالمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية كونها صاحبة الوصاية على المسجد الأقصى, وتوظيف كافة الخيارات الدبلوماسية والقانونية دعماً للتحركات الفلسطينية في المحافل الدولية والحفاظ على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.

هذه التحركات وتلك المساعي تهدف إلى توفير وتهيئة الأجواء والبيئة لاستئناف عملية السلام والمفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي, وفق المرجعيات والقرارات الدولية ومبادرة السلام العربية, وذلك في محاولة التوصل إلى نقاط ورؤى مشتركة بين الطرفين تنهي وتوقف المواجهات الدائرة بين الطرفين في الوقت الراهن, لتساعد في بلورة رؤية ومبادرة برعاية دولية في سبيل التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية, حينما تسمح به ظروف البيئة الإقليمية والدولية بناءً على التطورات والأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والتنافس بين القوى للسيطرة على المنطقة وتأمين والحفاظ على المصالح الاستراتيجية لكل القوى الإقليمية والدولية, ففي الوقت الراهن تسعى كافة الأطراف إلى تسكين الأوضاع في فلسطين, فهناك أولويات لدى الأمم المتحدة وأمريكا وروسيا أكثر أهمية من القضية الفلسطينية, والتي تدخل ضمن سياسة التنافس والمصالح الدولية في الشرق الأوسط, ممثلة بالأزمة السورية صاحبة النصيب الأكبر والاتفاق النووي الإيراني والأزمة اليمنية والليبية ومكافحة الإرهاب.

كما أن التحرك الأمريكي والساعي لاستعادة الهدوء بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يأتي في الوقت التي تشهد فيه الساحة السياسية الأمريكية تنافس بين المرشحين الجمهوريين والديمقراطيين لرئاسة الجمهورية الأمريكية والتي ستجري في الثامن من نوفمبر 2016, كما أنه يأتي في الوقت الذي يشهد فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما وإدارته فشلاً ذريعاً في حل قضايا الشرق الأوسط وزيادة تأزمها, واشتداد التنافس بين أمريكا وروسيا وعودة لملامح الحرب الباردة بين الدولتين, ويأتي ضمن التحالف الاستراتيجي والأزلي بين أمريكا وإسرائيل وتأكيد الأمريكي على حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها ونفسها والتزامها في الدفاع الحفاظ على أمن إسرائيل, وبالتالي يمكن القول بأن هذه التحركات الهدف منها كما أشرت هو استعادة الهدوء وهذا هو الهدف الظاهر العلني, ولكن الهدف الرئيسي والحقيقي هو تسكين الأوضاع في فلسطين من خلال جرعة من التطمينات والتسهيلات والضمانات تُقدم للطرف الفلسطيني, حتى يبقى الاهتمام والتركيز منصب فقط حول الأزمات ذات الأولوية لدى المجتمع الدولي.

من جهة أخرى, وكما هو متعارف عليه, فإن الأحداث الجارية في الساحة الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ما هي إلا جولة جديدة من جولات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وجولة من جولات الكفاح والنضال الوطني الفلسطيني من أجل الحرية وانتزاع الحقوق وتقرير المصير والاستقلال وإنهاء الاحتلال, إذ أن كل جولة من المواجهات والاشتباك تبدأ بقوة وتستمر لفترة من الزمن بنفس الوتيرة إلى أن تبدأ بالانحسار والتراجع التدريجي ليس ضعفاً وفشلاً من الشعب الفلسطيني في عدم قدرته على تحقيق أهدافه ومطالبه, أو حتى خوفاً ورعباً من قوات الاحتلال وممارساته وإجراءاته العقابية والإجرامية والتعسفية, لكن بسبب الحراك والعملية السياسية والتي تُعد عنصر أساسي في أي مواجهة أو حرب أو أزمة تندلع بين طرفين طال أمدها أو قصر, للتوصل إلى اتفاق أو هدنة,  فالتاريخ مليء بالشواهد, ويمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة دون الخوض في تفاصيلها, فحرب المئة عاماً بين فرنسا وبريطانيا انتهت بمعاهدة أراس, وحرب الثلاثين عاماً الدينية والتي مزقت أوروبا فقد انتهت بصلح وستفاليا, والحرب العالمية الأولى انتهت بمؤتمر الصلح ومعاهدة السلام والحدود الوطنية, والانتفاضة الأولى انتهت باتفاق أوسلو والحروب الثلاثة على قطاع غزة انتهت أيضاً عبر المفاوضات الغير مباشرة, والملف النووي الإيراني تم التوصل إلى اتفاق بشأنه من خلال المفاوضات والحراك السياسي, والأزمة السورية المستمرة ستنتهي وفقاً للعملية السياسية والحراك السياسي, فهذه الأمثلة للأزمات والحروب وغيرها كان المسار السياسي والدبلوماسي يسير بالتوازي مع العمليات العسكرية وأيضاً بالتوازي مع استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم في ظل المفاوضات, والتطورات المستمرة على الأرض.

وبالتالي, فإن هذه التحركات السياسية والدبلوماسية المكوكية والوقائية, تهدف كما تم الإشارة إلى استعادة الهدوء وإنهاء واجهاض الانتفاضة الفلسطينية, من خلال ممارسة الضغط على القيادة الفلسطينية بشتى الأشكال سياسياً واقتصادياً, كمحاولة اقناع القيادة الفلسطينية بأن إسرائيل غير معنية بتغيير الوضع في المسجد الأقصى وتقسيمه زمانياً ومكانياً, وأن إسرائيل ستوقف الاستيطان, ورسالة التهديد من قبل رئيسة لجنة الميزانيات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور جي غرينجر من تكساس، وكذلك السيناتور نيتا لوئي إلى الرئيس محمود عباس بإيقاف المساعدات المالية المقدمة من أمريكا إلى السلطة الفلسطينية إذا لم يوقف العنف والتحريض, إلا أن القيادة الفلسطينية مازالت متمسكة بكافة الحقوق والثوابت الفلسطينية, وترفض أي مساومات وتتصدى لكافة الضغوط الممارسة عليها سواء عربياً أو إقليمياً أو دولياً, وترفض العودة إلى المفاوضات بنمطها القديم, وتؤكد على عدم الالتزام بالاتفاقات التي تم توقيعها مع إسرائيل, وتؤكد على ما جاء في خطاب الرئيس في الأمم المتحدة وما جاء في اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية, كما أن كافة الطروحات والأفكار التي تم مناقشتها والاستماع لها سواء من الأمين العام للأمم المتحدة أو وزير الخارجية الأمريكي لم تقدم ما هو جديد.

 وبالتالي لم يحن الوقت لقبول القيادة الفلسطينية أي صيغة ومبادرة سياسية للعودة إلى المفاوضات والعملية السياسية طالما أنها لم تؤكد وتُقر بالحقوق الفلسطينية وإنهاء الاستيطان والقدس وعودة اللاجئين والإفراج عن الأسرى وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية, وحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية وفق القانون الدولي والقرارات الدولية, ودون محاكمة إسرائيل على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني, فمازال الميدان ومازالت الانتفاضة الفلسطينية المستمرة تقدم الكثير من أوراق القوة إلى الحقيبة السياسية الفلسطينية والتي ستكون أوراق ضغط تستخدمها القيادة الفلسطينية حال استئناف المفاوضات, وهذا ما تجسد فيما قيل من قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس لوزير الخارجية الأمريكي بأن الشعب الفلسطيني يواجه ارهاب منظم من قبل المستوطنين وجرائم حرب من قبل قوات الاحتلال, وما تم تسليمه لكيري من خمسة أقراص مدمجة توثق كافة الجرائم والاعتداءات الإسرائيلية, وحتى تبقى الحقيبة السياسية الفلسطينية الجديدة تزيد من رصيد أوراق القوة, المطلوب إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.

*باحث في شؤون الشرق الأوسط:

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لموقع " ريال ميديا "