غسان كنفاني مسرودا على الشاشة: ماذا تبقى منه هناك!؟
تاريخ النشر : 2022-07-03 00:45

فـــاروق وادي:

(1)

في البحث الدائب عنه، لم نعثر على ما يشي باهتمامات غسان كنفاني السينمائية(1) ، ربما باستثناء إشارة عابرة تومئ إلى أن غسان كان قد كتب سيناريو ليوسف شاهين بعنوان "رهر الخوخ" أو (زهر البرقوق)(2) ، مما يحيلنا فورا إلى عنوان روايته التي لم تكتمل.. "برقوق نيسان" ويدفعنا إلى مزيد من البحث والتقصي.

وسواء ثبت لنا انشغال غسان كنفاني في الكتابة السينمائية أو لم يثبت، فإن الباحث عن عين غسان السينمائية سوف يجدها، بصفائها وحساسيتها، حاضرة في رواياته المكتملة وغير المكتملة(3).

وفي عودة إلى فيلم "المخدوعون" الذي أخرجه توفيق صالح في العام 1971 عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" لعقد مقارنة سريعة بين الشريط السينمائي والكتاب، فإننا نعثر منذ اللحظة الأولى على تطابق بين المشهد الأول للفيلم والفقرة الأولى للرواية، وتكاد خيوط الامتداد والتواصل بينهما لا تنعدم حتى تخوم النهاية، ولعين الناقد أن تلحظ حتى أن اندفاع تيار الوعي في رواية كنفاني، يقابله عند النقطة ذاتها قطع مونتاجي في الفيلم وارتداد إلى أحداث وذكريات الماضي نفسها، كما تدفقت من قبل في وعي شخصيات الرواية.

الإخلاص لرؤية غسان نفاني، هو الذي ميز عمل توفيق صالح، بغض النظر عما أضافه المخرج من تفاصيل تضيء الفكرة، أو أسقط من النص جملا فائضة عن حاجة الشاشة، أو عدل قليلا بما تقتضيه متغيرات الزمن بين صدور الرواية وعرض الفيلم، وما تفرضه عليه رؤيته هو كمبدع.

إذن لم تكن الترجمة السينمائية الحرفية للنص الروائي هي سر تميز "المخدوعون" وإنما الجدلية الصامتة بين القطبين، أي بين مبدعي ووعيين، والتي أنتجت عملا آخر يفترق حينا ليتقاطع أحياناً مع أصله المكتوب ويضيء ويضيء زواياه المعتمة، ولعل تلك الإضاءة، هي التي جعلت غسان كنفاني يكتشف – بعد مشاهدته الفيلم بمنظور جديد – أن شخصياته، بحواراتها وأفكارها وجذورها الاجتماعية وطموحاتها، وأحلامها، كانت متقدمة عن الأفكار السياسية للكاتب عندما أنتج الرواية، وعلى ضوء ذلك وجد غسان في نفسه قدرا من الجرأة ليقر أن فيلما مأخوذا عن روايته، ساعده في كشف داخلي لحقيقة أن شخصيته كروائي كانت أكثر تطولا من شخصيته كسياسي(4).

(2)

لست موقنا إن كان غسان كنفاني قد شاهد فيلم "السكين" الذي أخرجه السوري خالد حمادة عن رواية "ما تبقى لكم"، إذ أن سنة إنتاج الفيلم (1972) كانت هي نفسها سنة رحيل غسان..

وإذا كان غياب غسان قد شكل فجيعة لمحبيه، فإن "سكين" خالد حمادة قد خذلهم على الشاشة، مشاهدين ونقادا وسينمائيين، بحيث أن ذاكرة السينما السورية التي أنتجته باتت تتذرع بالنسيان، فلا تذكره إلا من قبيل الأرشفة والتوثيق!

ولم يكن "الكلمة – البندقية" لقاسم حول 1972) فيلما يشتق صورته من كلام لغسان، وإنما عن غسان شهيد الكلمة، وتحية تسجيلية وثائقية في عشرين دقيقة للكاتب، المناضل، الشهيد(5).

لقد كان لتلك التحية أن تكتفي بوجودها، لولا إصرار قاسم حول على أخراج "عائد إلى حيفا" (1982)، فيلما روائيا طويلا عن عمل غسان الذي يحمل العنوان ذاته، ليضيف سكينا آخر إلى جانب سكين خالد حمادة.

يقينا أن نوايا قاسم حول لم تتخط الإخلاص الشديد والحرفي لرواية غسان(6)، غير أن عجز المخرج عن إيجاد المعادل السينمائي البصري المقنع لحركية الرواية وطروحاتها الذهبية الحادة في وضوحها، إضافة إلى فقر أدواته الفنية والتقنية، كل ذلك وضعنا أمام فيلم سينمائي ينسخ رواية كنفاني بشكل باهت بصريا، ومهتز تقنيا، ومباشر في طرح الأفكار على ألسنة شخصياته بفجاجة سياسية لا تراعي شروط الخطاب السينمائي، وكونه ينتمي في الأساس إلى حقل الإبداع لا إلى الموعظة والتبشير.

(3)

أمام سينما إيرانية متقدمة، تستثمر غسان كنفاني وتعيد إنتاجه برؤيتها وبكفاءات تمثيلية عربية (سورية)(7)، نعيد إلى قاسم حول، رغم كل ملاحظاتنا على فيلمه، اعتبار المشهد الأساس في الفيلمين. ونعني مشهد الخروج من حيفا.

يتقدم فيلم "عائد إلى حيفا" عن الفيلم الإيراني "المتبقي" للمخرج "سيف الله داد"، الذي يستثمر رواية غسان كنفاني نفسها. في هذا المشهد الذي يعتمد على تحريك المجاميع الشعبية أثناء الهجوم الصهونية على حيفا، ويبدو أن زمان ومكان تصوير المشهد كان لصالح الفيلم الأول، إذا اختار قاسم حول في مطلع الثمانينات، زمن تصوير الفيلم وزمن وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان، سكان مخيمي البداوي ونهر البارد في طرابلس لبنان لتصوير مشهد الخروج.

لم تكن جموع الناس في هذا المشهد تمثل، وإنما تعيد لحظة قاسية بعضهم عايشها جسديا، والآخر من خلال ذاكرة آباء أسرفوا طويلا في وصفها فأصبحت ملكا لتجربة الأبناء أنفسهم، وعلى النقيض من ذلك جاء مشهد الخروج في "المتبقي" الإيراني باهتا، إذ بدت جموع الناس وكأنها ليست مهيأة إلى للهروب العشوائي. وكانت حركتها بليدة وانفعالاتها باردة، ومقاومتها متواضعة، ومما أسهم في هبوط المشهد، عدم التفات المخرج إلى وصف غسان كنفاني لرحيل الناس في الزوارقإلى البحر، فكانت حيفا سيف الله دار بلا بحر، رغم أنه صور الجزء الأكبر من الفيلم في مدينة اللاذقية السورية والواقعة على شاطئ البحر!

إن المقارنة بين المشهدين في الفيلمين تقضي إلى حقيقة أن الحرارة والصدق، إذا لم يتوافرا في الجموع (الكومبارس). فإن الافتعال يمكن أن يجهز على واحد من أكثر المشاهد أهمية في الفيلم.. وربما أكثرها كلفة وبذلك جهد، وهو ما حصل في "المتبقي" الإيراني.

غير أن ذلك المشهد لم يكن خطئية الفيلم الوحيدة، وإنما جزء من رؤية متكاملة، فنيا وأيديولوجيا، حورت رواية غسان كنفاني وسطت على بعض عناصرها، واقترحت علينا أن نرى غسان كنفاني في راء أيديولوجي إيراني؟!

(4)

ينهض فيلم "المتبقي" للمخرج الإيراني سيف الله داد، على خيوط يستلها من رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" ليطرح رؤيته الخاصة التي تفترق بشكل فادح على رؤية غسان، وخطابه الروائي والأيدلوجي( .

لم يشر سيف الله دار في "تيترات" مقدمة الفيلم إلى غسان كنفاني وروايته، وإنما اكتفى بإشارة مترددة في تيترات النهاية (التي تراهن على جمهور يغادر الصالة المضاءة في تلك اللحظة".. تومئ إلى إلقاء "نظرة" على كنفاني و "عائد إلى حيفا"!.

تتجلى تلك النظرة في بناء سيناريو يتقاطع جزئيا مع رواية غسان، ليعود ويفترق معها في الجوهر والتفاصيل، بحيث يشكل نقيضا لمنهج توفيق صلاح في إخلاصه الفني والفكري للكاتب وروايته والعمل على إضاءتها عند تحويلها من شكل إبداعي إلى آخر، ويتمثل التقاطع الجزئي بين فيلم "المتبقي" ورواية "عائد إلى حيفا" في التشديد على حدث تاريخي هو سقوط حيفا عام 1948 وترحيل الجزء الأكبر من أهلها عنها، وحادثة ترك رجل وامرأة فلسطينيين لطفلها الوليد أثناء الهجوم الكبير على المدينة مع استيلاء العائلة اليهودية المهاجرة إلى فلسطين لبيتهما وطفلهما.

أما نقاط الافتراق فإنها تحتشد بعد ذلك على امتداد الشريط. فزمن الفيلم يتوقف عند العام 1948 بأحداثه التاريخية، مع أنه زمن مرتجع في الرواية التي تبدأ بعد سقوط الضفة الغربية عام 1967.

لن نتابع في الفيلم رواية غسان القائمة على عودة "سعيد س." وزوجته "صفية" إلى حيفا بعد احتلال الضفة عام 1967 للبحث عن إبنهما الذي كانا قد تركاه قبل عشرين سنة، ولقائهما به بعد أن أصبح ضابطا في الجيش الإسرائيلي، ذلك لأن فيلم "المتبقى" منحهما الشاهدة قبل مغادرتهما حيفا، حينما كانا يحاولان جاهدين الوصول إلى بيتهما حيث الطفل. وفي مشهد سقوطهما، رصد المخرج الإيراني كماً هائلا من عناصر الميلودراما التي تستدرج العواطف الأولية بانفعالاتها الآنية. دون أن تترك أثرا يذكر في الوجدان..

وإذ يحتفظ الفيلم بأسماء كما وردت في الرواية، فإنه يحول بعضها إلى شخصيات أخرى زرعها السيناريو في الفيلم دون أن يكون لها وجود في الرواية، أبرزها على الإطلاق شخصية "صفية" التي هي في الفيلم والدة سعيد ومحور الفيلم الأساسي.

تلملم "صفية" جراحها بسقوط المدينة الابن وزوجة الابن، تقرر استعادة حفيدا اليتيم، الذي استولت عليه العائلة اليهودية، وتتحايل بالعمل لدى تلك العائلة كمربية للطفل.. في محاولة لاقناص الفرصة من أجل استعادته، فتفشل، رغم المساعدة التي تقدمها لها خلية المقاومة الوحيدة التي يوقدها زوجها الصحفي المناضل والد سعيد، والذي ينال ه, هو الآخر الشهادة قبل تحقيق حلمه بتفجير قطار يحمل الجود الاسرائئليين والذخيرة من حيفا إلى تل أبيب!!

وتشاء المصدافات التقليدية للمليودراما، أن تكون صفية والعائلة اليهودية، والطفل جميعهم في رحلة القطار تلك. فتحمل صفية وصيحة زوجها الشهيد، وحقيبة المتفجرات ثم تحتضن الطفل.. وتستقل القطار الذاهب إلى مصيره الجهنمي..

وفي مشهد النهاية، يذهب سيف الله داد بالميلودراما إلى تجلياتها القصوى، حيث تنسحب صفية والطفل والحقيبة إلى مقدمة القطار المندفع بسرعة فائقة، وتجلس هناك لتتلو آيات مطولة من الذكر الحكيم، ولتقفز بعد ذلك من القاطرة وهي تحتضن حفيدها المتبقى، الصارخ في البرية، مع صوت الانفجار الرهيب.. الذي يمزق الحديد المندفع، والليل، والأعداء!

ما يسجل لصالح "المتبقى" ذلك المستوى الإنتاجي الحرفي العالي الذي تميز به الفيلم مقارنة مع فقر هذا الجانب في فليم قاسم حول، والتقشف الإنتاجي في فيلم توفيق صالح..

غير أن الترق الإنتاجي، مهما كان باذخا (وهنا لا أتحدث تحديدا عن "المتقى")، يظل عاجزا عن أن يشكل شفيعا لأي فيلم، وعن الارتقاء بالتقنيات العالية إلى مستوى الإبداع!

وإذا ما دخلنا في التفاصيل الشكلية لفيلم "المتبقي"، فإننا نجد الخلل متغلغلا فيها.. بدءا من الملابس التي لا تمت إلى الواقع بصلة، وانتهاء باللهجة غير المقنعة، والذي يفاقم من إنكساراتها اختلاط العامية الشامية التي تتحدث بها الشخصيات الفلسطينية مع العربية الفصحى التي تتحدث بها الشخصيات اليهودية!

مع ذلك، فإن ما يطرحه "المتقى" يظل يكمن في الأساس في سؤال مدى المباح فيه عند تحويل عمل أدبي إلى عمل سينمائي، ومدى الإخلاص للنص الأصل، سواء في التقاط التفاصيل الدالة الدقيقية، أو في صياغة خطاب سينمائي برؤية جديدة لا تنأى كثيرا أو تتناقض مع جوهر الخطاب الروائي.

الهوامش:

1. في كتاب ضم عشرات المقالات الصحفية النقدي التي كتبها غسان كنفاني (247 صفحة من القطع الكبير) لم نعثر سوى على إشارة واحدة عابرة تومئ إلى السينما، حيث يشير كنفاني إلى مؤلف كتاب ساخر قائلا أنه "يشبه بوبن هوب، بينما نريده شارلي شابلن قبل اشتراكه في فيلم صهيوني)"، راجع كتاب: غسان كنفاني "فارس فارس"، (جمعة وقدم له محمد دركوب)، دار الآداب ومؤسسة غسان كنفاني الثقافية بيروت 1996.

2. عن حديث أجراه هينيل وخميس خياطي مع المخرج توفيق صالح في آيار/ مايو 1976، راجع كتاب وليد شميط وغي هينبل "فلسطين في السينما" منشورات فجر – بيروت – باريس د. ت. (أواخر السبعينات).

3. لا تندرج في السياق الرواية التي نشرها غسان كنفاني تحت عنوان "من قتل ليلى الحايك" مسلسلة في جلة "الحوادث" اللبنانية (ابتداء من العدد 502 وحتى العدد 510 – حزيران تموز، آب 1966)، والتي قدمت مقترنة بمجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية التمثيلية برؤية سينمائية أخرجها الناقد السينمائي الراحل سمير نصري. وقد صدرت الرواية بعد سنوات من استشهاد غسان كنفاني تحت عنوان "الشيء الآخر". مع احتفاظها بعنوانها الصحفي سابق الذكر كعنوان فرعي، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية ومؤسسة غسان كنفاني الثقافية – 1980.

4. من آخر حديث مع غسان كنفاني أجراه كاتب سويسري، راجع مجلة "شؤون فلسطينية" العدد 35، تموز/ يوليو 1974 (وقد أعيد نشره في كتاب "غسان كنفاني نسانا وأديبا ومناضلا" بيروت – الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين 1974).

5. يقول المخرج عن فيلمه هذا (16 ملم – أبيض وأسود) أنه: "وثيقة عن الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي استشهد في الثامن من تموز عام 1972 بعد أن وضعت المخابرات الأمريكية والصهيونية متفجرة في سيارته وهو في طريقه إلى مجلة الهدف التي يرأس تحريرها، ويؤكد الفيلم على أن الكلمة الشجاعة لها فعل البندقية في مسيرة الثورة". راجع: قاسم حول "السينما الفلسطينية"، دار الهدف ودار العودة – بيروت، 1976.

6. يقول بول وارن: "إن عملية تحويل شكل فني إلى شكل فني آخر تؤدي إلى خلق عمل جديد تماما، فعملية تحويل الروايات إلى السينما، حتى تلك التي تحاول أن تكون أصدق العمليات نقلا للأصل (...) تولد شعورا جماليا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الشعور الذي تولده قراءة الروايات الأصلية، ذلك لأن وسيلة الاتصال الجماهيري – أي اللغة – مختلفة، فإحداها لغة أدبية تقوم على الحروف الأبجدية الهجائية، أما الثانية فهي سمعية مرئية". راجع بول ارن "السينما بين الوهم والحقيقة"، ترجمة علي الشوباشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1972.

7. قام بالأدوار الرئيسة فيه: سلمى المصري، خالد تاجا، بسام كوسا، جمال سليمان، جيانا عيد.

8. يرى لوي دي جانيتي أن بعض التغيرات الفنية التي يجريها سينمائيون على النصوص الأدبية "تبدو أقرب إلى الكفر"، وهو يعود إلى التأكيد على أن "الرائعة الأدبية كثيفة الإشباع بالمعومات، وعلى صانع الفيلم أني سعى جاهدا للعثور على المعادل السينمائي بدون تشويه لطبيعة المادة الأصلية"، راجع: لوي دي جانيتي "فهم السينما"، ترجمة جعفر علي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ودار الرشيد للنشر – بغداد 1981 ص 418 – 426.