التراث يدفن موءودا
تاريخ النشر : 2015-09-17 13:52

مجدي اسليم :

واحد ، واحد ونص ، واحد ، واحد ونص ، واحد ، واحد ونص ، واحد إثنين ثلاثة .. هذه ليست حصة لتعليم الأرقام ولا فصل من فصول الروضة أو المدرسة أنه دورة تدريبة لتعليم فنون الدبكة الشعبية كنت قد شاهدتها في السابق و حضرت بعضا من تلك الدورة لما شدني فيها من حركات و فنون قديمة يميزها الزي الفلسطيني بثوبه المنسي و دمايته الضائعة ولم يبقى منها إلى كوفيته التي هي رمز للثورة الفلسطينية .
جالت بخاطري هذه الذكريات بالأمس عندما كنت في حفل " سهرة الشباب " لأحد الأقارب عندما قال أحدهم عبر مكبر الصوت " يا شباب فضو الساحة لفرقة الدبكة " و أضاف " الي بيعرف يدبك يصف معاهم والي ما بيعرف يفضي الساحة " تواردت الأفكار في ذهني بعد سماع تلك الكلمات القلائل بدأت أتذكر الماضي الذي أحن اليه لازلت في عقدي الثالث لكني كنت أسمع من اجدادي الأساطير التي كانوا يتحدثون بها و كنت أسمع الأهازيج من جدتي " رحمها الله " وكانت تقول لي بأن الأفراح كانت تستمر أيام معدودة يصطف فيها كل شباب القرية للدبكة و يقود الصف العريس بنفسه لم يكن أحد يجرء على التخلف عن الدبكة أو عن فنونها الفطرية التي تولد معهم و كان لكل قرية دبكة تعتبر هي هوية هذه القرية كما ثوب نسائها المطرز .
كان لنساء غزة ثوبهم الخاص رغم مدنيتهم و كان لرجالها دبكة خاصة كما كان لنساء برقة ثوبها الخاص و لرجالها دبكتهم الخاصة التي تميزهم و كذلك السوافير و المجدل و الجورة و برير و البطاني و عرب روبين ويافا و حيفا و عكا و غيرهم من المدن و القرى و الخرب و العرب في ارجاء فلسطين .
شاهدت في الأمس جميع الشباب في ذلك الحفل يتنحون جانبا و يكتفون بالتصفيق بمن فيهم العريس و يتركون المجال لفرقة الدبكة التي لم تكن لديهم بالفطرة كما الماضي بل اكتسبوها بالعلم .. لا أنكر جمالها ولكنها لم تكن خالصة كالذهب من عيار 24 بل انها بكاد كانت تصل إلى الذهب من عيار 18 .
عودا على ذي بدء عدت إلى الماضي مرة أخرى فالعودة إلى الماضي لا يلزمها وقود للمواصلات و كهرباء فقط جلسة صافية مع افكارك فشاهدت مختارا و شيوخ قوم و عليتهم بثيابهم و حطات على رؤوسهم و عقال و شوارب و منقل " موقد النار " كبير تشتعل بداخله "قرامي" حطب البرتقال و اليمون و تشم في دخانه رائحة الوطن وتهتز بجواره الفناجيل و تصطف البكارج " الأباريق " تمتلئ بالقهوة بنها من ام الفحم و حب هانها من المثلث و زعفرانها من أريحا ليجتمع شاربوها هنا في غزة أو في أحدى قراها . شاهدت الفرسان يتسابقون بخيولهم و لم أشاهد شخصا يقول " صاحب الحصان البني يوسع الطريق " على غرار ما نسمعه في كل الحفلات " صاحب الجيب الأبيض يفتح الطريق " شاهدت الحنا و السامر و الدحية و اليرغول والشبابة لكن هذا كله شاهدته في مخيلتي ولم اجد منه شيئا في حفلة هذا الشاب و غيره من الشباب الفلسطيني .
إلى أين نحن ذاهبون هل الهتنا المدنية عن تراثنا هل بعد ان فقدنا ثياب نسائنا المطرزة ودبكتنا و عادات اعراسنا و أفراحنا و أتراحنا و استوردنا أفكارا من الدول المجاورة لا تعبر عنا بل أصبحت زفاتنا و اغانينا بلهجاتهم .. هل لازلنا نبحث عن وطننا الضائع ام سنفقده أيضا ؟؟
كاتب وصحفي فلسطيني:

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لموقع " ريال ميديا "