الحدث المغربي..!!
تاريخ النشر : 2020-12-16 02:15

حسن خضر:

نتوقف، اليوم، عند الحدث المغربي. مفردة "التطبيع" هي المُتداولة والسائدة في وصف الاعتراف المتبادل، وإقامة علاقات دبلوماسية، واتفاقات "سلام" بين الدول العربية وإسرائيل. وبهذا المعنى، التحق المغرب، قبل أيام بقائمة "المُطبّعين" مع إدراك مُسبق من جانب مؤيدي "التطبيع" ومعارضيه، على حد سواء، لحقيقة أنه لن يكون الأخير، فالسعودية، وكل ما تبقى من دول مجلس التعاون الخليجي في الانتظار. وعلى البيعة، سيجلب السعوديون عدداً من الدول "الإسلامية"، أيضاً.

وبما أن أيام ترامب في البيت الأبيض صارت معدودة، تجتهد وسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث، في الولايات المتحدة، والعالم، هذه الأيام، في تقديم كشف حساب لمُنجزات وإخفاقات أربع سنوات قضاها في سدة الحكم. وفي سياق كهذا، يبدو ما فعل في الشرق الأوسط، وبالشرق الأوسط، أبرز منجزاته على الأطلاق، خاصة في موضوع الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، والمسألة الفلسطينية.

ولنتذكّر أن ترامب، هذا، الذي حاول، وما زال، الانقلاب على نتيجة الانتخابات في الولايات المتحدة، والذي قوّض بأفعاله المنافية للدستور، والقيم السياسية السائدة، قيم ومؤسسات اللعبة الديمقراطية في بلاده، هو نفسه البلطجي الذي انتهك القانون والشرعية الدوليين، وقوّض قيم العدل والعدالة في الشرق الأوسط.

وإذا كان في وسع معارضيه إخراجه من البيت الأبيض بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإن الشرق الأوسط، والعالم العربي، على نحو خاص، يفتقر إلى آليات تمكّن المعارضين من الاعتراض على سياسات حكّامهم، وإسقاطها عبر صناديق الاقتراع. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، بقاء العنف المتبادل، في الحقل السياسي، بين الناس وحكّامهم، كأولوية في ظل انعدام الخيارات.

وبما تقدّم من المعاني تكون الكارثة مزدوجة. وما يزيد من تفاقمها أن التركة الترامبية في هذا الجزء من العالم لن تكف عن توليد دلالات سلبية على مدار عقود كثيرة لاحقة. ونكتفي في هذا الصدد بالكلام عن حقيقة أن كل "المُطبّعين" "العرب" الذين التحقوا ب "سلام إبراهيم"، "باعوا" جانباً من المسألة الفلسطينية مقابل الحصول على مكسب يحقق مصالحهم الخاصة.

حصل المغرب على اعتراف أميركي بالسيادة على الصحراء الغربية مقابل "التطبيع" مع إسرائيل. وحصل السودان على حذف اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وعلى سبعمائة مليون دولار لتعويض ضحايا تفجير سفارتين أميركتين، مقابل "التطبيع" مع إسرائيل. وحصلت البحرين على "الحماية" من "الخطر" الإيراني، و"تأمين" وضع الأقلية السنيّة الحاكمة مقابل "التطبيع"، وحصلت الإمارات على "الحماية"، وتأمين العائلات الحاكمة، وعلى البيعة طائرات متطوّرة مقابل التطبيع.

(وللطائرات وولع حاكم أبو ظبي بالطائرات، ورغبة الحصول عليها، وحرص ريتشارد كلارك، على تأمين اطلاعه على مجلاّت صناعة الطيران الأميركية منذ العام 1990، والمذكور يوصف بقيصر مكافحة الإرهاب في السي آي إيه، ويعمل حالياً مستشاراً لبن زايد، حكاية طويلة لا يتسع المجال لذكرها). ولا قيمة، في الواقع، لربط "التطبيع" بموضوع "الضم" أو تأجيله، فهذا دخان إعلامي.

ولنتذكّر، دائماً، أن ما ذكرنا من تحوّلات لم يكن ليتم دون موافقة ضمنية من السعوديين، وأن الموافقة الضمنية وثيقة الصلة بموضوع ولاية العهد، وما شهد من تقلّبات في تلك البلاد، إضافة إلى جريمة قتل خاشقجي، ومسعى عائلات ضحايا الحادي عشر من سبتمبر لمقاضاة الدولة والحكّام السعوديين، والحصول على تعويضات بمبالغ فلكية. وإذا كانت ترامب قد نجح في عرقلة الكثير مما يرتد سلباً على السعوديين نتيجة هذا كله، فمن غير الواضح ما إذا كانت الإدارة الديمقراطية معنية باقتفاء أثره. ولا يبدو من مخرج للسعوديين سوى "التطبيع" للحيلولة دون تدهور العلاقة بالأميركيين.

وعلى ضوء هذا كله، تبدو مفردة "التطبيع" فقيرة، ومُضللة، إلى حد بعيد. والأسلم التفكير في الدلالات بعيدة المدى ل "سلام إبراهيم". والصحيح، أيضاً، أن "التطبيع" هو القناع، والمُحلل اللغوي، (إن شئت) لعملية استلام وتسليم بين الأميركيين للإسرائيليين، وتنصيب إسرائيل كقوّة إقليمية مُقررة أصبح العالم العربي جزءاً من "حصتها" ومنطقة نفوذها.

على أي حال، تعيدنا الميكافيلية "المفاجئة" التي تجتاح العالم العربي، هذه الأيام، إلى عبارة الشاعر الجاهلي "وأحياناً على بكر أخينا، إذا لم نجد إلا أخانا"، أي غزو "الأخ" إذا تقلّصت الخيارات. وبعد "بيع" الفلسطينيين، في زمن ما بعد العروبة والقومية، ثمة ما يشير إلى إمكانية إعادة الاعتبار إلى السياسة، أو العودة إلى البربرية، وإسقاط كل أمل في التنوير والتغيير. ولا أعتقد أن ثمة ما يحمي "سلام إبراهيم" ويضمن مستقبل أكثر كفاءة من البربرية.

وعلى ضوء هذا كله، أيضاً وأيضاً، تتجلى حماقة التخريب الترامبي في الشرق الأوسط، فالسلام الإمبراطوري، منذ روما القديمة حتى الآن، يتحقق بمزيج من القوّة العارية والدبلوماسية الناعمة، وتوزيع الغنائم، وتجنيد الشركاء، واقتسام الأرباح بين المركز والأطراف. وما حدث نقيض هذا، وهو شديد الشبه بشخصية ترامب نفسه، وبالسياسة كممارسة لفن التمثيل.

ثمة أسئلة تتمثل في مدى كفاءة الإسرائيليين في ممارسة دور القوّة الإقليمية، وإحساسهم بالشبع، ومدى قابلية المركزين الإيراني والتركي للتأقلم مع هذا الدور، أو العمل على تخريبه، والمدى الزمني لغيبوبة مصر، و"عودة الروح" إلى الحواضر أو ما تبقى منها، (لا رهان، بالمطلق، وبقدر ما أرى، على السعودية والخليج)، ناهيك عن التداعيات المُحتملة لعمليات التسليم والاستلام والبلطجة الأميركية والمقايضة، والتي لن تكون ناجحة، وفعّالة، دون مجابهة مع مفاهيم وقيم كالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لـ "ريال ميديا"