قراءة نقديّة لقصيدة (مؤامرة العصافير).....
تاريخ النشر : 2019-05-23 03:21
الشاعرة / ميَّادة مهنَّا سليمان

الشّاعر العراقيّ حسين نهابة:

مؤامرة العصافير

هل سأقول مَرّ فَصل آخر؟
وهل سأنتظرُ زماناً آخر؟
أطَمْئِنُ قلبي الواقف 
كناطور 
في حَقلِ السنبل
بأنكِ في آخر السربِ تكوني
وأنكِ في زمانِ الخِصب 
لابد أن تثوري
وأنه لو لم تك السموات والأرض
والنار والجنان
أنتِ وَحدكِ وبمشيئة القَلب 
كنتِ وستكوني.
أنظرُ حولي 
انفرطتْ حَبّات الكُروم 
في صيفِ انتظاركِ 
ويَشتعلُ الحَقل 
بصغارِ الحجلِ والحَمام،
تُقيم العصافيرُ عُرسها 
عند باب الحديقة
وتُغامرُ احياناً فتقترب أكثر 
من أرجوحتكِ
تهز صبري
وأحلام اللقاء
فعلى صحوكِ، ينام كل صغاري
وأطفال الجيران
تستريح الريح 
وأغاني البرد
وأمطار الشتاء
كنت سأصرخ ملء الشوق 
يا امرأة الصيف
والطيور المهاجرة 
والمطر 
تعالي
إني تعبتُ من شهقات المحطة
لولا أنكِ في القيظ تحضرين
في رائحة الارض 
وفي نومة النهر
وفي أغاني النخيل
لولا أنكِ ملء القلب والروح 
لولا أنكِ في خرزة عيني تقيمين
سأظل أنطر صيفك
وأرتّب كراسي الحديقة
وأهز في أرجوحتكِ 
كل مواعيدكِ التي لم تحفظيها
وإن نفضتْ شجرة التوت أوراقها
أعرف جيداً انكِ من تحرّضيها
وإن باغتتني جوقة العصافير 
بعاصفة احتجاج
أعرف أيضاً أنكِ من تآمرتِ معها
وأنكِ من نظّم لهذا العصيان
وإن عبرتني غيمة حزينة 
وغمرتني بالدمع والبكاء
أعرف أنها منكِ أنتِ 
وأنها أنتِ 
وأنكِ أنتِ من ترسليها

أمام جماليّة عنوان قصيدة الشّاعر حسين نهابة
وقفتُ مبتسمة، فكأنّ العنوان (تميمة ألق) 
علّقها الشّاعر فوق باب قصيدته، فجذبَتني ووجدتُ نفسي أتأمّل كيف لتلك المخلوقات الصّغيرة، الرّقيقة،
ذات الأصوات العذبة أن تكون متآمِرة؟
بل شعرت أنّني أمام لوحة بصريّة، سمعيّة، تعجّ بالحركة والحياة، والجمال.
يبتدئ الشّاعر قصيدته بتساؤل:
هل سأقول مَرّ فَصل آخر؟
وهل سأنتظرُ زمانًا آخر؟
يمهّد لنا من خلاله الدّخول إلى حالته النّفسيّة الّتي يعيشها وهل هناك أصعب من الانتظار، ولا سيّما إن كان قد طال كثيرًا؟
ثمّ يزيد توتّر تلك الحالة النّفسيّة حين يأتي بتلك الصّورة البديعة مصوّرًا لنا حال قلبه:
أطَمْئِنُ قلبي الواقف 
كناطور 
في حَقلِ السّنبل
بأنّكِ في آخر السّربِ تكوني
جميلٌ هذا القلب في انتظاره لِخطوات الحبيبة
وكي يكون أكثر لهفة كان:
( كالنّاطور في حقل السّنابل)
نحن هنا أمام دلالتين رمزيّتين:
* النّاطور: الإنسان/المحتاج
فهو بما يحمله من عبءٍ كبيرٍ يُثقل كاهله
لأنّ كلّ ما هو أمامه مسؤول عنه، والتّعب هنا مزدوج
(نفسيّ، وجسديّ) وهو في أمسّ الحاجة لرؤيتها،
كما النّاطور في أمسّ الحاجة لتأمين الرّزق، ولولا ذلك ما قبِل هذا العمل المتعِب الّذي يلزمه تحمّل الحرّ، والمراقبة المستمرّة كنوع من القلق.
* الحقل: الدّلالة المكانيّة/الزّمانيّة
فهو ليس أيّ حقل، بل حقل سنابل
بمعنىً آخر، حين تُذكر السّنابل يُذكر الحصاد،ووقته الصّيف، وهنا يزيد لوعة الانتظار القيظ والّذي ما هو إلّا قيظ الرّوح المتعطّشة لنسمة من المحبوبة.
والمكان ذاك باتّساعه يبدو لي كاتّساع مخيّلة الشّاعر الّذي- في الحقيقة- لا يحرس سوى أشواقه خوفًا من خيبةٍ مرتقبةٍ تأتيه ممّن أحبّ.
ويختم ذاك المشهد البديع بقوله:
بأنّك في آخر السّرب تكوني
لديه الأمل، ولو مرّ سرب العصافير كلّه، لا شكّ تكون في آخره كمفاجأة جميلة تداعب روحه المضناة حنينًا.
وتتوالى إيقاعات الانتظار الرّتيبة فيقول:
أنظرُ حولي 
انفرطتْ حَبّات الكُروم 
في صيفِ انتظاركِ 
فعناقيد العنب الّتي نراها متماسكة، انفرطت
وما هذه الصّورة إلّا دلالة نفاذ صبره الّذي بدا كحبّات العنب المتعَبة تحت أشعّة الشّمس.
تُقيم العصافيرُ عُرسها 
عند باب الحديقة
وتُغامرُ أحياناً فتقترب أكثر 
من أرجوحتكِ
تهز صبري
وأحلام اللقاء
يتأمّل الشّاعر المخلوقات الّتي حوله، فيغبط العصافير على سعادتها( تقيم عرسَها) تعبير لا شعوريّ عن تلك الأمنية الّتي يسرّها في نفسه والّتي ستجمعه في لقاء دافئ مع حبيبته، والجميل تلك المفارقة فالعصافير تقترب من أرجوحتها،
فيهتزّ صبرُه مع كلّ اهتزازة لها، مستذكرًا إيّاها،
وهي تجلس عليها. ولو كتب الشّاعر: 
(تقترب من أرجوحتك) بدلًا من: 
(تغامر أحيانًا فتقترب من أرجوحتك) 
لكانت أجمل، لأنّ الجملة الأولى لا تكسر الإيقاع الدّاخليّ لموسيقى القصيدة.
سأظل أنطر صيفك
وأرتّب كراسي الحديقة
بعد تلك الحالة الأليمة لانفراط صبره، يستجمع قواه ليؤكّد أنّه لن ييأس (سأظلّ) مع دلالة حرف السّين للمستقبل يتّضح ذلك، وسيرتّب كراسي الحديقة كنوع من الاهتمام بتفاصيل عاشاها معًا، يدلّل على ذلك:
وأهزّ في أرجوحتكِ 
كل مواعيدكِ التي لم تحفظيها 
وقمّة الإحساس المتصاعد في آخر القصيدة
وروعة الإيقاع الموسيقيّ الّذي زاده 
نعومة استخدام (هاء الغائب):
( ترسليها، تحرّضيها)
وإن نفضتْ شجرة التوت أوراقها
أعرف جيداً أنكِ من تحرّضيها
وإن باغتتني جوقة العصافير 
بعاصفة احتجاج
أعرف أيضاً أنكِ من تآمرتِ معها
وأنكِ من نظّم لهذا العصيان
وإن عبرتني غيمة حزينة
وغمرتني بالدمع والبكاء
أعرف أنها منكِ أنتِ
وأنها أنتِ 
وأنكِ أنتِ من ترسيلها.
فهي مختبئة في تفاصيل الطّبيعة وكلّ ما حوله محوره هي..
نلاحظ (شجرة التّوت، العصافير، الغيمة)
لقطات ممّا حوله جعلها تقاسمه لحظة التّرقّب الجميل
للقائها، فهي سبب حزنه، وهي في الوقت ذاته سبب سعادته، ولنتأمّل تحديدًا توالي:
(كاف الخطاب المؤنّثة، وتاء التّأنيث، وضمير الهاء العائد عليها، وياء المؤنّثة المخاطبة) حيث تكرّرت في القصيدة ثلاثين مرّةً، وفي المقطع الأخير وحده إحدى عشرة مرّةً، مقابل استخدام النّداء مرّة واحدة (ياامرأة الصّيف).
وكأنّ التّأكيد المستمرّ على الضّمائر ولا سيّما (هاء الغائب) يعطي الشّاعر فرصة للتّعبير أكثر عن مكنون الانتظار ولوعة الغياب.
كما عجّت القصيدة بالألفاظ الموحية بالطّبيعة، 
وجاءت كحقل دلاليّ مبهِج:
(فصل، ناطور، حقل السّنابل، الخصب، الكروم
السّموات، الأرض، النّار، الجنان، صيف، القيظ، الحديقة
السّرب، الحجل، الحمام، العصافير، الطّيور المهاجرة،
الشّتاء، المطر، غيمة، عاصفة، النّخيل، شجرة التّوت، أوراقها.)
وكلّ ذلك شكّل لوحة رائعة بمضمونها، وحروفها. 
ختامًا: تحيّة للشّاعر حسين نهابة
الّذي أمتَعَنا بهذا النّصّ الجميل.