الخليل؛ محرك الاقتصاد الفلسطيني.. الأكثر فقراً!
تاريخ النشر : 2015-04-09 21:32

بثينة حمدان:

لا يكتمل صيف طفولتهم إلا بالعمل في حرفة العائلة، ففي محافظة الخليل عائلات معروفة بمهن محددة، وفيها ملوك الاستيراد بلا منازع والذين لديهم مكاتبهم في الصين وفيتنام وكوريا، وفيها ثلث انتاج الضفة الغربية من الثروة الحيوانية، وثلث الوحدات الصناعية وأبرزها الزجاج والفخار والنسيج والجلود.. وطبعاً ينام أهلها على نفطهم الأبيض ويستيقظون على بريق الذهب صناعتهم.. وكل هذا يعني حرباً اقتصادية شرسة مع الاحتلال!

زوجتي متعلمة!

قبل أن يلتقي فريق القبس حسام عابدين مدير العلاقات العامة في محافظة الخليل، بحثنا عن مقهى وسط المدينة، رحب بنا هذا الشاب الذي يقف باب أحد المطاعم، ورغم أنه مختص بالأكلات الشعبية إلا أنه أحضر لنا كوبين من النسكافيه من قهوة مجاورة، هو من أهل المدينة التقيين الكرماء الذي فضل استقبالنا مادمنا نقف في بابه. محمد؛ أب لخمسة اطفال يقوم بمهمتين في هذا المطعم المكون من خمسة طوابق: التنظيف وتقديم الطعام، حتى الساعة السادسة ليلاً، بدلاً من الحادية عشرة مثل بقية زملاءه. بمهمتان مقابل أن يعود لأبناءه مبكراً في قرية بيت أولا قضاء الخليل. ورغم أنه لم يكمل تعليمه إلا أنه دفع زوجته لتتابع تعليمها الجامعي. يتحدث بفخر عنها رغم أننا كلما اتجهنا جنوب فلسطين كلما كان المجتمع محافظاً أكثر خاصة اتجاه المرأة فيكون تقليدياً.

حرب الورود

ما أن رد حسام السلام على إحدى السيارات، حتى ركبنا متجهين إلى الغرفة التجارية، السائق المضياف هو يحيى القواسمة مالك أكبر متاجر للورود والمشاتل عدا عن عمله في البناء، ابتاع آلة لزراعة الاشتال بثمن يصل مليون شيكل (250 ألف دولار)، وزرع الورد الجوري والقرنفل في الدفيئات الزراعية التي يمتلكها، والتي تحمي الورود من طقس الخليل البارد، حيث يصل ارتفاعها في بعض مناطقها أكثر من ألف متر عن سطح البحر.

قال لنا يحيى: "كسرنا اسرائيل بالورود بعد أن كنا نستوردها من اسرائيل ومن الخارج، قام العديد من أهالي الخليل بإنتاجها مما أثر على تجارة الورود في اسرائيل". هذا ما يطلق عليه البعض  "الحرب الناعمة" مع الاحتلال لاسيما بعد عام 2010 حين أنتجت الضفة الورود تحدياً للمنتج الاسرائيلي، مما قلل نسبة المزارعين الفلسطينيين في المستوطنات الاسرائيلية، ويبقى تصدير الورود أمر خاضع للقيود الاسرائيلية، لكن التحدي والطموح الخليلي وصل إلى حد انتاج عنب بطعم المانجا، بتقنية التهجين.

العنب؛ "عسل" الخليل

اعتاد يوسف جبران (72 عاماً، دكتوراة في الاقتصاد) والمقيم في رام الله مذاقاً واحداً للعنب، وهو عنب سعير قضاء الخليل، فيوصي دائماً ابن عمه أن يحافظ على ثلاثة أو أربعة قطوف -عناقيد- من أكثر ثمار العنب حلاوة في الدالية التي يمتلكها في بلدته. هاهو يعود بعشرة كيلو غرامات من العنب الشامي والحلواني، وهناك العنب الزيني والذي يصنع منه: الدبس (عصير العنب المطبوخ بشكل خاص)، المربى، والملبن عصير العنب مطبوخ بالسميد)، والزبيب (عنب مجفف)، وكل هذا في بيت الخليلي طوال العام، عدا عن أن العنب عموماً يعد فخر الضيافة تماماً كالمنسف. العنب فاكهة الفلسطينيين ومع خبز الطابون يصبح فطورهم الشهي.

تتميز الخليل بهوائها كونها جبلية ترتفع 940 متر عن سطح البحر مما يعد بيئة مناسبة لزراعة العنب الذي يحتاج غلى الهواء والماء، وبالتالي يتميز بحجمه ومذاقه وشكله، لذا يوجد أكثر من 42 ألف دونم مرزوعة بالعنب تنتج سنوياً 58 ألف طن، مما يعد دخلاً جيداً لنحو ستة آلاف أسرة تعمل في زراعة العنب، لاسيما وأن شجرة العنب تعيش 25 عاماً وهناك أنواع قد تعمر 150 عاماً.

العائلات الصناعية

ترتبط أشهر العائلات الخليلية بعلاقة وطيدة مع حرفة أو صناعة ما، فعائلة النتشة متخصصة بالزجاج، عابدين بالصرافة، أبو منشار بمواد البناء، الحرباوي بالذهب والفرشات –تصنع الخليل 60% من الذهب المتوفر في السوق الفلسطيني حيث أسس أهل المحافظة مشاغلهم الصغيرة تحت منازلهم-، أما عائلة الحداد فهي الوحيدة المالكة لمصنع الحديد في الضفة.

وسط البلد كان متجر لؤي السعافين مالك مصنع ملابس توارثه عن اجداده، يوفر الزي العسكري للأجهزة الأمنية والزي المدرسي الحكومي وغيرها، كان المصنع يعتمد على المواد الخام الاسرائيلية قبل أن يصبح قادراً على الاستيراد وذلك رغم أنها بحاجة إلى موافقة اسرائيلية والتي تتأخر لشهور، وشهور أخرى لإدخال البضاعة المستوردة مما يعني دفع غرامات عن كل يوم تأخير في الموانيء الاسرائيلية، وأشار عابدين إلى احتكار التاجر الاسرائيلي للوكالات العالمية للكثير من البضائع، حيث يقنع الوكيل الاسرائيلي العلامات العالمية أن وكالته تشمل السوق الفلسطيني، ومع ذلك فإن الاعتراف الأممي بفلسطين دولة شجع العديد من الوكالات التوجه للسوق الفلسطيني.

الحرب الجلدية

تنبعث رائحة دباغة الجلود في أماكن كثيرة في الخليل، فهي صناعة رائدة وقديمة منذ مئات السنين، وتتعرض هذه الصناعة لحرب ضروس فقد أعلن مؤخراً طارق ابو الفيلات رئيس اتحاد الصناعات الجلدية أن الاحتلال يمنع منذ قرابة شهر دخول المواد الأساسية لهذه الصناعة دباغة الجلود، مما يهدّد صناعة الأحذية في المدينة. بسبب هذه العراقيل أغلقت نصف مصانع الدباغة، فيما تعمل بقية المصانع بأقل من نصف طاقاتها، مع توقعات بإغلاق المزيد من المصانع بسبب منع دخول المواد الخام.

ومع ذلك شقت هذه الصناعة طريقها إلى أوروبا، وتستعد للسوق الألمانية، بعد بيعها في معارض الحذاء الدولي في ألمانيا والذي شاركت فيها تسع شركات من المحافظة. وتتميز الجلود الخليلية بجودتها كونها مصنعة من جلد الماشية وخاصة الأبقار، بعد دباغتها أي معالجتها لتصبح صالحة للاستعمال الصناعي. بينما باتت معظم الأحذية حالياً من الجلد الصناعي الذي يعتبر ذو جودة أقل من الطبيعي.

الألبان.. صناعة طبيعية

تشتهر الخليل بصناعة الألبان، فهي تنتج 33% من انتاج فلسطين من الحليب، لذا كان لابد أن نتوجه إلى أحد هذه النماذج. استقبلنا حسام الجبريني مدير المصنع والذي حدّثنا عن والده الذي أسس معملاً صغيراً للألبان عام 1957، تطور إلى أن توسع وانتقل عام 2000 إلى مرحلة الصناعة بإداخال الآلات، وأصبحت عام 2006 أول شركة تنتج الحليب طويل الأمد –التتراباك-. اعتمد المعمل على الحليب الاسرائيلي قبل أن تصبح له مزارع فيها أربعة آلاف بقرة حلوب يعتمدون في تغذيتها على العشب الطبيعي، عدا عن حليب المزارعين، والوحيدون الذين يملكون خط انتاج الجبنة الصفراء في الضفة بعد تجارب استمرت عامين.

يشغل مصنع الجبريني 350 عاملاً وموظفاً ومئات آخرين يعملون بشكل غير مباشر، وينتج المصنع الذي تحول إلى شركة مساهمة عامة 140 صنفاً من منتجات الحليب والألبان والأجبان.

مر المصنع بمراحل عديدة، فإغلاق قطاع غزة وعدم القدرة على تصريف كميات كبيرة من منتجاتهم خصصت للقطاع، والخسائر التي تكبدوها نتيجة انقطاع الكهرباء في مخازنهم هناك وبالتالي تلف البضاعة، ألهمهم بإدخال خط جديد في تعبئة الحليب بحيث يكون صالحاً لمدة ستة شهور. سمعة المصنع مثل غيره تتهدد دائماً لاسيما حين تكون حملات مقاطعة البضائع الاسرائيلية في أوجها، حيث تبدأ اسرائيل ببث السم وتشويه المنتج الوطني لا سيما الألبان عبر دعاية مغلوطة لمحاربته.

صناعة الحجر

أثناء جولتنا على المحاجر والكسارات الواقعة في العديد من قرى المحافظة، شاهدنا الغبار والآليات الضخمة، فمن هذه الحجارة الطبيعية تبنى منازل الفلسطينين، والتي تثير عادة اعجاب الأجانب ما بين متضامنين وسياح، ويذهلهم أكثر الحجم العمراني في بلد تحت الاحتلال.

هذه الصناعة هي الثانية في فلسطين من حيث التداول بعد الذهب، وتشكل 26% من الصادرات، وتصل أسواق 60 دولة، وهناك أكثر من 400 شركة عاملة في هذا المجال. وقد أخبرنا حسام عابدين عن هذا البترول الأبيض الذي وصل قطر والسعودية والصين والامارات وروسيا والدول الاسكندنافية.

الغنى والفقر صديقان!

أشار لنا حسام إلى احد الفنادق الحديثة في المدينة وعلقاً متعجباً: "لماذا بني الفندق. يستطيع الضيف أن ينام في أي منزل في الخليل!". لم أفهم في البداية إلى إشارته لكرم أهلها، فالنكت تشير إلى العكس، فتابع قائلاً: "لا أعرف حتى لماذا لدينا أفران، فعبر جولة سريعة في البلدة القديمة يمكن جمع عشرة أرغفة على الأقل من الخبز!". ضحك وهو يتحدث عن أهلها البسطاء والمضيافين، والذين يعيشون النقيضين، فرغم كل هذه الصناعات التي جعلت من الخليل وقود الضفة، إلا أنها المحافظة الثانية من حيث ارتفاع نسبة البطالة والبالغة 22%، بل إنها الأكثر فقراً حيث تبلغ نسبته 33%.

حلاوة سيدنا ابراهيم

رغم ما تعانيه البلدة القديمة إلا أن عبد المعز سدر (70 عاماً) يصر على إعداد "راحة الحلقوم" أو "حلاوة سيدنا ابراهيم" (ص) في مصنعه الصغير في البلدة والذي أسسه اجداده عام 1820. وعلى الطرقة القديمة، وبوصفة خاصة جداً ومكونات بسيطة هي السكر والماء والنشاء والصبغة الحمراء، توضع كلها في وعاء كبير وتطهى لمدة ست ساعات وبدون مواد صناعية أو جلاتينية، ثم تترك ليلة كاملة لتبرد قبل أن تقطع إلى مكعبات صغيرة، طريقة قديمة تجعل صلاحيتها أكثر من خمس سنوات، فكلما تقدمت في العمر أصبحت أشهى. 

القبس: