الخميس 28 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

الكأس المقدسة، زواج المسيح .. بين الخيال والتاريخ قراءة في رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون

  • 00:30 AM

  • 2022-06-28

ناهـض زقـوت:

بعد أن انتهيت من قراءة رواية "شيفرة دافنشي" وسجلت ملاحظاتي وتعليقاتي على الرواية بهدف الكتابة عنها لإعجابي الشديد بما تطرحه من مضمون جديد ومبتكر بالنسبة للقارئ العربي، ورؤية مليئة بالغموض والغرائبية، وبناؤها القائم على الجمع بين التاريخ والفنتازيا في قالب روائي، وضعت ما سجلته في أوراقي جانباً، وانشغلت بموضوع جديد على أن أعود إلى أوراقي وملاحظاتي لاحقاً. وأثناء تصفحي لكتاب أثار انتباهي يحمل عنوان (الدم المقدس – الكأس المقدسة) لمجموعة من الكتاب: ميشيل بيجنت، وهنري لنكولن، وريتشارد لي، وهو صادر بالإنجليزية في عام 1982، وترجم للعربية في عام 2006. أخذت أقرأ في هذا الكتاب فأعاد إلى ذهني ما قرأته في كتاب "شيفرة دافنشي".

لقد كان هذا الكتاب هو مصدر إلهام الكاتب "دان براون" مؤلف رواية "شيفرة دافنشي" في موضوع روايته، وثمة تناص عديد بين روايته وهذا الكتاب وصل إلى حد استخدام اسم بطل روايته "سونير" مستمداً من اسم الشخصية المركزية في هذا الكتاب، كما أن بعض الأحداث في الرواية تتشابه مع ما جاء في هذا الكتاب. وبما أننا لسنا بصدد الحديث عن التناص في هذه الرواية، ونترك ذلك لناقد آخر ليقرأ ويعيد رسم المتشابهات والدلالات والاقتباسات بين الرواية وهذا الكتاب التاريخي الذي صيغت مادته بما يشبه الرواية.

شيفرة دافنشي رواية قد لا تعجب كل من لديه حساسية دينية، خاصة الديانة المسيحية الكاثوليكية، إذا قرأ الكتاب ككتاب تاريخي، وليس كرواية خيالية تمزج الخيال مع الواقع حتى وإن تضمنت حقائق تاريخية، تبقى رواية من خيال الكاتب حاول أن يثبت من خلال مرجعيات تاريخية أنها رواية واقعية، لذلك يتفاجأ القارئ بنهايتها التي تلغي كل الأفكار التي قرأها سابقاً في سرد الأحداث. وهنا تكمن عبقرية الكاتب في كيفية توظيف التاريخ لكي يخدم أغراضه السردية، وتشويق القارئ.

يدرك دان براون أن ما سوف يقوله عن الكأس المقدسة كلاماً خطيراً قد لا يتوافق مع التراث المسيحي ومع أذواق القراء المسيحيين، لذلك يشير في روايته إلى أن ثمة خمسين باحثاً ومؤرخاً تحدثوا عن الموضوع وهو استند إليهم في طرح موضوعه وكتابة الرواية.

شيفرة دافنشي للكاتب الأمريكي دان براون الصادرة عام 2003، رواية متعبة ومرهقة، لكنها ممتعة ومشوقة، ومن أجمل الروايات التي تأخذك إلى عالم الإبهام والغموض والأسرار، ولكن تلك الأسرار هي أفكار ورؤى راسخة في كتب التاريخ، ومنتشرة بين أعداد محدودة من الباحثين، ليس بالضرورة تؤمن بها، ولكن بالضرورة عليك البحث عن مدى مصداقيتها. طافحة بالرموز التي تحيلنا إلى تفسير الكون وبدايات الحياة، وإذا تعمقت في قراءة رموزها ودلالاتها ستدخلك عالماً من الفانتازيا لم تسمع عنه من قبل، وقد لا يخطر في بالك، وما بين الواقع والفنتازيا والفن يكمن سر الرواية.

أثارت رواية شيفرة دافنشي فور صدورها جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والدينية، لدرجة أنها منعت من التداول في أوروبا بأمر من الكنيسة، وفي بعض البلدان العربية. ورغم ذلك ترجمت الرواية إلى نحو خمسين لغة، وطبعت نحو ثمانية ملايين نسخة، وفي الطبعة العربية ترجمتها "سمة محمد عبد ربه"، ونشرت عن الدار العربية للعلوم، بيروت 2004.

إن الكتابة عن هذه الرواية لا يغني أبداً عن قراءتها، فما الكتابة إلا تحفيز للقراءة. فالكاتب أو الناقد لا يستطيع أن يقول كل ما احتوته الرواية، فالرواية غنية بالتفاصيل والأحداث والوقائع والرموز والدلالات والأفكار والرؤى التي تجمع بين الماضي والحاضر، وبين الخيال والتاريخ، وأجمل من ذلك وصف الأماكن بكل دقة تشعرك كأنك تسير معه في هذا الشارع الباريسي، أو تزور متحف اللوفر، أو تزور إحدى الكنائس البريطانية أو الفرنسية، وفي عمق الرواية نتعرف على أسماء الشوارع والميادين، ومحطات القطار، والمطارات، ومفارق الطرق، والغابات، والقصور القديمة، والقلاع، والكنائس. لهذا كله يختار الكاتب أو الناقد جانباً من جوانب أحداثها وتحركات شخصياتها، ويغوص بين ثنايا السرد مع استبعاد الكثير من التفاصيل لكي يصل إلى مغزى الرواية ورسالتها. في دراستنا سنركز على مسألة الكأس المقدسة والفكرة التي طرحها الكاتب، ودلالاتها وأبعادها التاريخية والفكرية.

لذلك نحن لا نقرأ الرواية قراءة نقدية، بل قراءة أدبية لكي نجيب على سؤال: كيف ربط الكاتب بين الكأس المقدسة والماسونية، وما علاقة الكنيسة بهذه الكأس ودلالتها؟، وما علاقة اسرائيل بالكأس المقدسة؟، وهل ما طرحه الكاتب حقيقة تاريخية أم مجرد أوهام باحثين ومؤرخين يسعون لتزييف الوعي والتاريخ؟.

لقد أبدع الكاتب في جعل روايته مشوقة لدرجة رهيبة ومثيرة على مدار زمني لا يتجاوز اليومين في سرد الأحداث، ولكنها تغرقنا في أزمان عديدة. وفي فصولها ال 105 بالإضافة إلى الخاتمة، وعبر 495 صفحة يغرقنا الكاتب في التفاصيل ورسم ملامح المكان وحركة الشخصيات، وكان في كل حركة يبرز جانباً من الرسالة التي يسعى لبثها عبر ثنايا السرد، وهي التي تزيد القارئ إثارة وتشويقاً، من خلال أسلوب الكاتب في بناء روايته القائمة على الذكريات بأسلوب الفلاش باك، وعلى قطع الحدث واستكماله في فصول لاحقه، مما جعل القارئ يلهث وراء كل فصل لكي يصل الى حل للعقدة التي عقدها الكاتب في فصول سابقة، وحين ينتهي منها يفتح أمامه عقد جديدة يلهث خلفها لكي يصل مع الكاتب إلى نهاية الرواية ليكتشف أن كل ما قدمه الكاتب كان مجرد حلم انعكس من الواقع الذي عاشه بطل الرواية في محاضرته عن الأيقونات والأنثى المقدسة.

شيفرة دافنشي رواية تدفعك للبحث في أغوارها لكي تصل مع كاتبها إلى حل عقدة الابهام. قد يشعر القارئ أن روايات الغموض والغارقة في الرموز هي رواية بعيدة عن الواقع، وأنها تسرح بالقارئ في عالم من الخيال والفانتازيا، لكن ذلك غير حقيقي، فالغموض والرموز هما جزء من الواقع الذي نعيشه، يسعى كاتب الرواية إلى تفكيك الرموز وفك مغاليق الإبهام التي يعيش الإنسان في عالمها، مستخدما حدث أو عدة أحداث ليجعلها خلفية لما يسعى أن يوصله من رسالة يعبر من خلالها عن وجود عالم الرموز ودوره في حياتنا، فالرمز سواء أكان رياضياً أو اجتماعياً هو جزء من واقعنا، فنحن نعيش وسط عالم مليء بالرموز سواء أدركنا معانيها أو دلالاتها أو لم ندرك لكنها جزء من واقعنا. إذا نظرنا إلى أعلام الدول مثلاً هي رموز ذات دلالة، ولكل دولة علمها أو رمزها الخاص الذي تعرف به ويعبر عن سيادتها، والرموز تشكل عالماً من التراث الشعبي لدى الكثير من الشعوب، وفي حال إدراكنا للرمز ندرك تلقائياً دلالاته.

لقد اتخذ الكاتب في روايته من الكأس المقدسة أو الأنثى المقدسة دلالة رمزية تاريخية دينية في تفاعل أحداث الرواية، التي استند فيها إلى التاريخ أو جعل من التاريخ خلفية لأحداثها، أو مادة يرسم بها أحداث روايته، لذا تعد رواية شيفرة دافنشي رواية تاريخية يمتزج فيه التاريخ بالخيال، كما ذكرنا، لكي يرسم صورة واقع قد يبدو للشخص العادي غير واقع، يهدف إلى تصوير حدث من الأحداث الضخام بأسلوب روائي سائغ مبني على معطيات التاريخ، في محاولة لإقناع القارئ أنه يقول الحقيقة، وأن ما يسرده في روايته هو جزء من التاريخ الواقعي. وقد استند في روايته إلى الوثائق والرسائل المدونة، الكتب والمؤلفات وإسنادها إلى مؤلفيها. لذلك كانت الرواية تحمل وفرة وكثافة في مساحات التخييل، وحدة المباغتة، وعمق الالتباس، وثراء الحيرة والدهشة العارمة المثيرة.

*****

يمثل (روبرت لانغدون) الشخصية المركزية في صياغة أحداث الرواية، بما يمكن أن نعتبره بطل الرواية، فهي أكاديمي وعالم الرموز في جامعة هارفرد، وصل إلى فرنسا محاضراً حول موضوع "الرمزية الوثنية في أحجار كاتدرائية شارتر"، وكان على موعد مع (جاك سونيير) بعد القاء محاضرته، وذلك بعد أن قام محرر كتابه عن "تاريخ عبادة الآلهة الأنثى" بإرسال نسخة من الكتاب إلى سونيير الخبير الفني والقيم على متحف اللوفر الذي كرس حياته لدراسة تاريخ الآلهة الأنثى للاطلاع والتقييم. وحين قتل سونيير وجد نفسه – دون أن يدري – متهماً بجريمة قتله. في رأينا أن الكاتب دان براون اتخذ من شخصية لانغدون ستاراً خفياً يخفي نفسه خلفها لكي يبث من خلالها آرائه ومواقفه وأفكاره.

وثمة العديد من الشخصيات إلى جانب لانغدون تساهم في رسم الأحداث، فنجد (صوفي نوفو) خبيرة فك الشيفرات والرموز في الشرطة القضائية الفرنسية، وهي شابة باريسية، درست فك التشفير في جامعة هولواي الملكية في انجلترا، لديها حماس كبير في علم تحليل الرموز وفك الشيفرات. حين تصل لمتحف اللوفر لكي تساهم في فك رموز سونيير، تتعرف على لانغدون، تخبره أنه في خطر ومتهم بجريمة قتل سونيير، وما استدعائه للمتحف إلا لإثبات التهمة عليه، وتعترف له أن جاك سونيير هو جدها. وتأخذ في رواية علاقتها مع جدها ومقاطعتها له عشر سنوات، بسبب مشهد شاهدته على جدها في وضع غير مريح صدمها في قبو المنزل، حين كان مع جماعة آخرين يمارسون طقوساً لم تفهمها، ولم تقبل تفسير جدها للأمر، ولكن لانغدون حين يعرف منها طبيعة الطقس الذي شاهدته، يأخذ في تفسيره مما جعلها تغير وجهة نظرها عن جدها. كما تكشف له أن عائلتها كلهم ماتوا بسبب حادث، ولم يبق لها غير جدها. وكان دائماً يحذرها أنها في خطر شديد. وترى أن جدها استخدم شيفرة بسيطة لكي يجمع شخصين لا يعرفان بعضهما، ودون أن يعرفا السبب أو الهدف. وأن الرسالة التي كتبها كانت موجهة إليها.

وشخصية (بيزو فاش) قائد الشرطة القضائية الفرنسية، المكلف بالتحقيق في جريمة قتل جاك سونيير، ومن خلال مواقفه نكتشف المزيد عن شخصيته، فهو يشتاط غضباً حين يعلم أن صوفي نوفو هي العملية المرسلة من قسم التشفير في الشرطة لتحليل الرموز، فلم تكن علاقته معها جيدة، ويعتبر وجودها من أكبر أخطاء مديرية الشرطة القضائية. فوجودها كشابة جذابة في مكتب يعج برجال في الأربعينات من عمرهم، من شأنه لفت الانتباه والالهاء عن العمل، فقد كان ضد عمل المرأة، ويعود ذلك إلى خلفيته المسيحية المتطرفة، فهو يضع الصليب في رقبته، وله صورة مع البابا، وقد كان على علاقة مع أوبوس داي الكنيسة الكاثوليكية المتطرفة في الخفاء، ويتفق مع الكنيسة الكاثوليكية في رؤيتها المتطرفة للمرأة.

وشخصية (سيلاس) عضو جماعة أوبوس داي وهو يد الجماعة في القتل، وشخصية الأسقف (مانويل أرينغاروزا) كاهن جماعة أوبوس داي المسيحية الكاثوليكية المتطرفة. تلك الجماعة التي لها جذور تاريخية، وارتباطات مشبوهة مع الفاتيكان في محاربة الأنثى المقدسة. وشخصية المؤرخ الملكي البريطاني (السير لاي تيبينغ) الذي قضى جل حياته في البحث عن الكأس المقدسة، ويلعب دوراً كبيراً في سير الأحداث باعتباره القائد أو المعلم الخفي لأبوس داي، فهو محرك أعمال القتل والعنف بهدف الوصول للكأس المقدسة لكي يحصل على المجد الشخصي.

هؤلاء جميعاً يجسدون الصراع حول الكأس المقدسة، ويلعبون الدور الرئيسي في أحداث الرواية إلى جانب شخصيات أخرى تعد ثانوية في مجرى الأحداث.

يعد (جاك سونيير) أحد أربعة كبار في "أخوية سيون"، ولديهم سر كبير مخفي، وكانت منظمة أوبوس داي المسيحية الكاثوليكية المتطرفة وبدعم من الفاتيكان، تسعى وراء الحصول على سر مكان اخفاء الكأس المقدسة، لأنه لو كشفت الأخوية هذا السر سوف ينقلب العالم والفكر المسيحي رأساً على عقب، ويهتز إيمان المسيحيين بدينهم. لهذا كان هدفهم الحصول على أسرار هذه الكأس واخفائها إلى الأبد. وقد قتله "سيلاس" في مكان عمله في متحف اللوفر، وقبله قتل ثلاثة من أصدقاء سونيير يحملون نفس السر، وهم جميعهم أعضاء في منظمة "أخوية سيون"، وخلال تهديدهم بالقتل أباحوا جميعهم بنفس الإجابة عن السر، وهي إجابة متفق عليها وليست حقيقية. فجميعهم أخبروه قبل موتهم أن حجر العقد مخفي تحت أرضية كنيسة "سان سولبيس" في باريس. وهي من الكنائس ذات الدلالات التاريخية والرمزية، فلم يكن اختيار الكاتب لها مكاناً للأحداث اعتباطاً بل لدلالاتها، فقد بنيت فوق بقايا معبد مصري قديم كان مكرساً للآلهة إيزيس (دلالات الأنثى المقدسة)، وفيها تم تعميد ماركيز دو ساد، وبودلير، واحتضنت مراسم زواج فكتور هيجو (وجميعهم أعضاء في الماسونية)، وقد استضافت قاعتها اجتماعات العديد من الجمعيات السرية.

تقوم فكرة الرواية حول ما فعله جاك سونيير في الدقائق الأخيرة من حياته، بعد أن أطلق سيلاس النار عليه داخل اللوفر، في تشكيل جسده في وضعية غريبة بعد أن عرى جسده بالكامل، وكتابة مجموعة من الرموز على جسده وعلى أرضية المتحف، لكي يحفظ السر بعد مقتل الثلاثة الكبار الذين كانوا يحتفظون بهذا السر في أعماقهم.

وفي هذه الكتابة الرمزية حاول سونيير أن يجمع بين صوفي ولانغدون، رغم عدم معرفتهما السابقة ببعض، وذلك لخبرة لانغدون الواسعة في فك الرموز، وهذا ما أدركه سونيير حين اطلع على مسودة كتابه. كان سونيير من أشد المعجبين بل من المغرمين بأعمال ليوناردو دافنشي، وكان يتمثل حياته وأعماله في العديد من جوانب حياته، وهذا ما يرتبط بعنوان الرواية، الذي سوف نفسره من خلال تفسير الرواية، والدلالات والرموز التي استخدمها سونيير في تشكيل السر.

لقد أدرك لانغدون أن مجموعة الرموز التي رسمها سونيير تشكل مفاتيح اللغز/ السر فهي منسجمة مع بعضها تماماً: النجمة الخماسية، والرجل الفيتروفي، ودافنشي، والآلهة، وحتى متوالية فيبوناتشي، تشكل معاً مجموعة رمزية مترابطة منطقياً بلغة علماء الرموز.

إذن ثمة علاقة بين ما رسمه سونيير والنجمة الخماسية من حيث العلاقة الأنثوية، فقد كان دافنشي موضوعاً محيراً بالنسبة للمؤرخين وبخاصة في ما يتعلق بالتقاليد المسيحية وعلاقته الغامضة مع هذه التقاليد، ودلالات الغموض والسرية في أعماله الفنية. وهنا تبرز دلالات العنوان في العلاقة التي تربط بين دافنشي وسونيير، وتأثره بأعماله الفنية والأسرار التي أحاطت بها، فقد كان سونيير يشاطر دافنشي الكثير من المعتقدات والمبادئ الروحانية، التي من ضمنها القلق من طرد الكنيسة للأنثى المقدسة من الدين الحديث، وتحويلها إلى شيطان.

ولكي يبرز الكاتب موقف الكنيسة من الكأس المقدسة أو الانثى المقدسة، يحاول أن يبرز الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية والأديان الوثنية، وطمسها لكل ما يمت لهذه الأديان الوثنية من رموز، وكذلك الصراع بين الكنيسة والأخوية (أخوية سيون) حول الكأس المقدسة وعلاقتها بالديانة المسيحية، وقد تولت منظمة الأوبوس داي المسيحية الكاثوليكية المتطرفة في أفكارها وفي موقفها من المرأة/ الأنثى، مهمة البحث عن الكأس المقدسة التي تخفيها الأخوية في مكان سري. فهي تسعى بكل قوة إلى إبعاد الأنثى من حياة الكنيسة، لما في ذلك من ارتباط تقول به الأخوية بين المسيح ومريم المجدلية التي تمثل الأنثى المقدسة ورمزها الكأس المقدسة. من هنا كانت حربها على الأخوية في سبيل الحصول على حجر العقد أو المفتاح الذي يوصلها إلى أسرار الكأس المقدسة، التي لا يعلم عن مكانها إلا جماعة الأخوية بما تمتلكه من وثائق متعلقة بالكأس المقدسة تسعى في نظرهم إلى تغيير الدين المسيحي.

وقد جندت منظمة أوبوس داي بزعامة الأسقف "مانويل أرينغاروزا"، أحد أعضائها للقيام بمهمة البحث عن حجر العقد، وهو "سيلاس" الذي انتمى للكنيسة وقامت الجماعة بغسيل دماغه في سبيل تحقيق أهدافها، ويقدم الكاتب ملامحاً من حياة سيلاس توضح كم هو مجرم وقاتل، ومسجون اثنتي عشر عاماً، ومشرد في الشوارع منبوذ، فوجده الأسقف ونقله إلى الكنيسة، وأطعمه ومنحه اسماً جديداً، واستغله في الأعمال القذرة. وأصبح لا يصلي للرب بقدر ما يصلي للأسقف أرينغاروزا، وينفذ كل أوامره دون تردد.

لم يكن القس أرينغاروزا هو صاحب القرار في ما يتعلق بالعثور على حجر العقد أو الكأس المقدسة، فقد كان هناك شخص لا يعرفه إلا بلقب الأستاذ أو المعلم، هو الذي يتواصل معه عبر الهاتف ويوجه تحركاته، وهذا المعلم هو الذي يتمكن من الحصول على المعلومات، ومن خلالها يوجه أرينغاروزا الذي بدوره يوجه سيلاس. يكتشف القارئ في سير الأحداث أن المعلم ومحرك جماعة أوبوس داي هو المؤرخ الملكي البريطاني (السير لاي تيبينغ)، كما ذكرنا، الذي قضى سني حياته في دراسة الكأس المقدسة والبحث عن أسرارها، وكانت تربطه صداقة مع لانغدون، وجزء مهم من إلهامه في الكتابة عن الكأس المقدسة، وقد كان المحطة التي اختفى عندها لانغدون وصوفي هرباً من الشرطة، وفي بيته يكشف لانغدون عن السر الذي يحملانه، ويطلب مساعدته، ليكتشف لاحقاً أنه رأس الشر، ومحرك كل المؤامرات بهدف الحصول على الكأس المقدسة.

أما بالنسبة للأخوية، يشير الكاتب في أكثر من موضع في روايته إلى ارتباط الأخوية بالحركة الماسونية، ويذكر رموزها وأعضائها. في حوار لانغدون مع صوفي حين كشفت له عن مفتاح جدها الغريب والرموز التي يحملها، طلبت أن يحدثها عن أخوية سيون. يقول: "لقد كتبت عن هذه الجماعة ... إنهم يطلقون على أنفسهم اسم جمعية سيون، ومقرها الرئيسي هنا في فرنسا، ويجتذبون أعضاء متنفذين من كل أوروبا، ويمكن القول أنهم إحدى أقدم المجتمعات السرية في العالم والتي مازالت فاعلة حتى اليوم. ... وقد ضمت عضوية الجمعية أفراداً من أرفع الشخصيات في التاريخ ومنهم: بوتيشلي، والسير اسحق نيوتن، وفيكتور هوجو، وليوناردو دافنشي، الذي كان رئيس الجمعية من العام 1510 حتى العام 1519م، والمعلم الأكبر فيها".

أما عن جذورها التاريخية، فقد تأسست هذه الأخوية في القدس عام 1099م على يد ملك فرنسي يدعى غودفروا دو بويون بعد احتلاله للمدينة مباشرة. يقال إن الملك غودفروا كان يحتفظ بسر عظيم، سر كان في عائلته منذ زمن المسيح، وخوفاً من أن يضيع السر بعد موته، قام بتأسيس جمعية سرية وهي أخوية سيون، وكلف أعضاءها بحماية سره وذلك بنقله من جيل إلى آخر، وخلال السنوات التي قضوها في القدس، سمع أعضاء الأخوية بوجود وثائق سرية مدفونة تحت أنقاض معبد هيرودوت، والذي بدوره كان مبنياً على أنقاض هيكل سليمان، وحسب اعتقادهم كانت تلك الوثائق تثبت سر غودفروا العظيم، كما أنها خطيرة بمحتواها إلى الحد الذي جعل الكنيسة مستعدة لفعل أي شيء على الاطلاق للحصول عليها.

ولتحقيق هدف الحفاظ على السر، قام أعضاء الأخوية بإنشاء فرقة عسكرية وهي مجموعة من تسعة فرسان، عرفوا باسم فرسان الهيكل. وهؤلاء هم الذين اكتشفوا شيئاً ما تحت الأنقاض، شيئاً جعلهم أغنياء ومتنفذين إلى حد يفوق الخيال. وقد حملوا كنزهم ووثائقهم من المعبد وسافروا به إلى أوربا، حيث أصبح نفوذهم واسعاً جداً بين ليلة وضحاها، ومنحهم البابا إينوست الثاني سلطة كبيرة واستقلال ذاتي، وبفضل هذا السلطة توسعوا قوةً ونفوذاً ومالاً، وأخذوا يمدون الملوك المفلسين بقروض ذات فوائد، مما زاد من ثروتهم، وبذلك كانوا نواة البنوك الحديثة.

إن القوة العسكرية والسياسية التي شكلها فرسان الهيكل جعلتهم يشكلون خطراً على الكنيسة، فقرر البابا كليمانت الخامس التخلص منهم بمساعدة ملك فرنسا فيليب الرابع، والاستيلاء على كنزهم، الذي يتألف من مجموعة من الوثائق والذي هو مصدر قوتهم. في شهر أكتوبر عام 1307م تم تنفيذ عملية القضاء على فرسان الهيكل، وتمكن بعضهم من الهرب ومعهم كنز الوثائق، وأصبحت في عهدة أخوية سيون، وعبر سنوات وهذا السر ينتقل من مكان إلى أخر دون الوصول إليه، وأصبح يعرف عند المؤرخين والباحثين بسر "السانغريال" أو "الغريل" أو الكأس المقدسة. وهذا الكأس ليست كأساً بالمعنى الحرفي بل مجموعة من الوثائق لسر كبير.

لقد أخذت أخوية سيون على عاتقها في الحفاظ على هذا السر، فهي حامية الغريل المقدس، لذلك فإن أعضاء الأخوية ينتظرون عقوداً وهم يثبتون أنهم أهل للثقة قبل أن يتم ترفيعهم إلى أعلى الرتب التي وضعتها الأخوية ليعرفوا مكان الغريل، وعلى الرغم من أن عدد أعضاء الأخوية ضخم جداً إلا أن أربعة منهم فقط هم الذين يعرفون المكان الذي خبئ فيه الغريل، وهم المعلم الأكبر وأتباعه الثلاثة. وأن سر المكان لم تتم كتابته أبداً طوال القرون الماضية، ويتم تناقله شفاهياً لأسباب أمنية إلى العضو الذي يترفع إلى أعلى مرتبة (سينيشال) وذلك في احتفال سري، إلا أنه في مرحلة ما في القرن الماضي، أطلقت اشاعات تفيد بأن الأخوية قد غيرت تلك السياسة، والسبب هو التقنيات الحديثة القادرة على التصنت الالكتروني، لذا أقسمت الاخوية على ألا تأتي على ذكر المكان الذي خبئت فيه الكأس المقدسة أبداً.

ولم يستبعد لانغدون أن يكون جاك سونيير هو المعلم الأكبر للأخوية، فالمعلمون السابقون هم من شخصيات اجتماعية بارزة، ولهم علاقة بالفنون، وهذا ما كشفته الوثائق التي عثر عليها في مكتبة باريس الوطنية، وكانت هذه الوثائق تضم أسماء عديدة لمعلمي الأخوية من بينهم: دافنشي، وبوتيشلي، واسحق نيوتن، وفيكتور هيجو، وجان كوكتو، وغيرهم.

إن الوثائق التي عثر عليها في مكتبة باريس، كشف الباحثون والدارسون لها أنها مزورة وليست حقيقية، وقد اعتقلت الشرطة الفرنسية الذين قاموا على زرع هذه الوثائق في المكتبة.

وفي سياق حديث لانغدون وكشفه عن الدلالات والرموز التي ترتبط بالكأس المقدسة، يحاول أن يربط بين سونيير ودافنشي على المستوى الفني، فالرجلان يتقاسمان رابطة أخوية تاريخية، وبتفقان في انبهارهما بأيقونات الآلهة الأنثى، وتقديس الطبيعة، وألوهية المرأة، وإزدراء الكنيسة. لقد نذر دافنشي حياته للعبادة القديمة للآلهة الأنثى، وقد تجلت هذه العبادة في لوحته الشهيرة "العشاء الأخير" التي تعبر عن رموز مخبأة في أماكن لا يمكن تخيلها تحمل دلالات عظيمة للأنثى المقدسة. ويؤكد أن الأخوية هي المذهب الوثني لعبادة الآلهة الأنثى. لكن الأهم هو أنهم يعرفون كحماة سر قديم جعلهم أقوياء لدرجة رهيبة. فهذا دافنشي كان يعلم طوال حياته أين خبئ الغريل، وأن هذا المخبأ السري تغير عدة مرات، لذا ينشغل المؤرخون والباحثون في أعمال دافنشي للبحث عن دليل خفي يرشدهم إلى السر.

*****

يشير الكاتب أو لانغدون إلى مجموعة كبيرة من الرموز والدلالات المرتبطة بالكأس المقدسة أو الأنثى المقدسة، ويأخذ في تفسير دلالاتها ويربطها مع سرد الأحداث، ويبرز العلاقة بين دافنشي وجاك سونيير، يوظف في هذه الرموز ثقافته الواسعة واطلاعه على أسرار الأخوية، وعلاقتها بالصراع مع الكنيسة التي تنكر الأنثى المقدسة وتحارب وجودها، في حين تقوم الأخوية في الإعلاء من مكانتها لأن وجودها يعني توازن الحياة. وفي كل ذلك معتمداً على مراجع تاريخية في محاولة لإقناع القارئ بصدق ما يطرحه.

إن السر الذي يعيد التوازن للحياة هي الكأس المقدسة، أو ما تحمله هذه الكأس من أسرار تضرب صلب المعتقد المسيحي، والتشكيك في الانجيل، يقول السير "لأي تيبينغ" المؤرخ الملكي السابق الذي التجأ إليه لانغدون وصوفي لحمايتهما، فأخذ يحدثهما عن ماهية الكأس المقدسة، وعلاقتها بالإنجيل، والعهد الجديد، وليوناردو دافنشي. ومما قاله أن الانجيل لم يرسل من السماء عن طريق الفاكس، بل هو من تأليف بشر، والدليل تعدد كتب الانجيل. لقد كان الكاتب ذكياً في هذه المسألة وهي التشكيك في الديانة المسيحية، فلم يتحدث هو مباشرة عن الموضوع، وإنما جعل المؤرخ البريطاني هو الذي يشكك في المسيحية وانجيلها، لكي يبرأ نفسه أمام القارئ المسيحي بأنه ليس صاحب الفكرة إنما نقلها عن كبير المؤرخين في المملكة البريطانية.

وإذا عدنا إلى مرجعية خارج الرواية حول هذا الموقف والرؤية للديانة المسيحية، نجد مؤلف كتاب (السر الأكبر) ديفيد إيكه، يشرح بالتفصيل كيف كتب الانجيل ومن هو الذي كتبه؟. وهذا يعني أن ثمة رؤية مطروحة لدى المؤرخين من الديانة المسيحية، أنها صناعة بشرية. قام عليها الامبراطور قسطنطين الذي رفع منزلة المسيح بعد أربعة قرون من موته، وهو الذي اختار الانجيل الجديد وحرق دون ذلك من كتب الانجيل. وأن مجمع نيقيه الايطالي هو الذي وضع قانون الإيمان المسيحي، وأقر قانون ألوهية المسيح، وكل ما يشهده العالم من مظاهر في الديانة المسيحية. كل ذلك من أجل السيطرة والنفوذ، ومن هنا يأتي الصراع بين الكنيسة والأخوية، فالكنيسة تريد أن تبقى على مظاهرها وأفكارها المسيحية، في حين أن الأخوية لديها أفكار جديدة تهدم الدين المسيحي، وتغير من أفكار المؤمنين بهذا الدين، خاصة فيما يتعلق بشخصية المسيح.

وقد ارتبطت هذه الكأس بالعديد من الرموز، وهنا يؤكد الكاتب أن إحدى مساوئ مهنة عالم الرموز هي المحاولة الدائمة لاستخلاص معان خفية من مواقف بسيطة لا تحمل في طياتها أي غموض، لذا شكل روايته من خلال العديد من الرموز التي يصل من خلالها إلى الكأس المقدسة وهي: الخط الوردي، والنجمة الخماسية، ورموز سونيير على أرضية اللوفر، ولوحة دافنشي الرجل الفيتروني، ومتوالية فيبوناتشي، والحرفين P.S، ولعبة التاروت، والنسبة المقدسة PHI، والرقم 1.618، وزهرة الزنبق، ولوحة دافنشي الموناليزا، ولوحة دافنشي سيدة الصخور، مفتاح العقد أو الحجر المفتاح، ولوحة دافنشي العشاء الأخير، والمثلث، والسيف والقدح، والنجمة السداسية، والكريبتكس، واحتفال بيروس غاموس، وبافوميت، وشيفرة اتباش.

ونجد أن العديد من هذه الرموز مستمدة من الديانة اليهودية، أو معبرة في دلالاتها عن اللغة العبرية، أو مستمدة من هذه اللغة.

ولم تكن دلالات الكأس المقدسة في الرموز فقط التي طرحها لانغدون/ الكاتب، وقام على تفسيرها وارتباطاتها التاريخية، بل نجد قصة الغريل أو الكأس المقدسة في كل مكان من حولنا، ولكن ليس بطريقة مباشرة، بل بالإيحاء والدلالات المخفية، يقول الكاتب أو لانغدون: عندما قامت الكنيسة بتحريم الحديث عن المنفية مريم المجدلية، كان يجب أن يتم تناقل قصتها وأهميتها عبر الأجيال بطرق غير مباشرة وأكثر تحفظاً، وطرق تعتمد على التعابير المجازية والرمزية. لذا تجدها في كل مكان في اللوحات والموسيقى والكتب، وفي الرسوم المتحركة وعالم والت ديزني، ومدن الملاهي، وأفلام السينما الشعبية، وتعد الفنون من أدب وموسيقى اليوم أكثر تأثيراً في رواية قصة يسوع ومريم المجدلية بطرق غير مباشرة، فنجد ذلك في أعمال دافنشي، وبوسان، وبيرنيني، وبيتهوفن، وموزارت في سمفونية الناي السحري، وأوبرا فاغنر بارسيغال، وموسيقى التروبادوريين، وشكسبير، وفيكتور هوجو في رائعته أحدب نوتردام، كما أن الأساطير الخالدة مثل سير غادين، والفارس الأخضر، والملك آرثر، والأميرة النائمة، جميعها تحكي قصة الكأس المقدسة بطريقة الإيحاء لا المباشرة، وقد كتبت مجلدات ضخمة عن العلاقة التي تربط الماسونيين بفرسان الهيكل، وأخوية سيون، والكأس المقدسة.

وبهذا يؤكد الكاتب دان براون أن روايته تدخل ضمن اطار الأدب المستقبلي الذي يتناول الكأس المقدسة، ويسعى إلى ترسيخها في عقلية وذاكرة الأجيال والناس.

*****

تعود صوفي بذاكرتها إلى عيد ميلادها التاسع، وأثناء بحثها عن هدية جدها، تجد في أحد الأدراج "مفتاح ذهبي براق مربوط في نهاية السلسلة، ولم يكن يشبه أيا من المفاتيح العادية. كان عموداً مثلث الشكل تغطيه ثقوب صغيرة وكبيرة، ورأسه الكبير الذهبي كان بشكل صليب، لكنه لم يكن صليباً عادياً بل كان متساوي الأضلاع كإشارة الزائد، وقد حفر في منتصف الصليب رمز غريب، حرفان متشابكان يربطهما تصميم بشكل نوع من أنواع الزهور P.S ... وحين اكتشفها جدها قال لها: إن هذا المفتاح مهم وخاص جداً ... يفتح صندوقاً يحفظ الكثير من الأسرار". ويكشف لها جدها أن الزهرة التي على المفتاح هي (زهرة الزنبق)، والحرفان هما P.S) هما شيفرة، وأنهما الأحرف الأولى من اسمهما السري. وقد وعدها جدها بإعطائها المفتاح إذا حافظت على سر وجوده.

يطلق لانغدون لخياله العنان من خلال الربط بين زهرة الزنبق والحرفين P.S، حيث يؤكد لصوفي أن جدها كان عضواً في مجمع سري، أخوية قديمة تعمل في الخفاء (وهي جمعية سيون)، لأن زهرة الزنبق إذا اجتمعت مع الحرفين P.S معا، يتشكل رمز الأخوية الرسمي، وشعار النبالة الخاص بهم وعلامتهم المميزة.

لقد طفت على السطح أسرار قديمة كانت دفينة يوماً، ولم يعد يذكرها التاريخ، وبهذه الأحداث والرموز التي بلورها سونيير خرجت من أعماق التاريخ إلى الحياة، وبدأت أولى الخيوط تتكشف بالربط بين سونيير ودافنشي وجمعية سيون. حين سلط لانغدون الضوء نحو الموناليزا بدأت تتسع لديه الرؤية: "زهرة الزنبق .. زهرة ليزا .. الموناليزا. كل شيء في انسجام مع بعضه وأصبح واضحاً، كسيمفونية صامتة تردد صدى أعمق أسرار جمعية سيون وليوناردو دافنشي".

إن زهرة الزنبق ليست زهرة عادية مثل كل الزهور، بل زهرة ذات دلالات ورموز. تشير معاني الزهرة إلى الأنوثة والرقة والسلام، وهي معروفة بهذا المعنى منذ القدم، ووظف الناس هذه المعاني في شعارات ورموز كثيرة، وخلال العصور الوسطى تداخلت زهرة الزنبق مع الفن المسيحي، وارتبطت تدريجياً مع نشيد للملك سليمان "زنبقة بين الأشواك"، وأشير بها إلى مريم العذراء، ورمزت الزنبقة في الأدب الديني إلى النقاء والعفة، ويعتقد أيضاً أن زهرة الزنبق تمثل الثالوث المقدس. وقد كانت الزهرة مرسومة على تيجان العديد من ملوك أوروبا.

وأثناء بحث صوفي عن رسالة جدها عند الموناليزا، تجد مفتاح جدها الغريب الذي يفتح صندوقاً فيه أسرار، كما قال لها، خلف لوحة سيدة الصخور لدافنشي، فانتزعته ودسته في جيبها. وينطلقان في السيارة هرباً من مطاردة الشرطة. وفي السيارة تعطيه المفتاح وكان مندهشاً حين رآه وخاصة مما هو مطبوع على جانب الصليب زهرة الزنبق والحرفين P.S فقال لها: هذا هو الختم، إنه شعار أخوية سيون التي تحتفظ بسر الكأس المقدسة.

ويشير لانغدون إلى علاقة مفتاح العقد أو حجر العقد بالحركة الماسونية، منذ زمن البنائين الأحرار، الذين جعلوا من هذا المفتاح كتقنية معمارية جزءاً من أسرارهم. لذا يعد الحجر المفتاح هو خريطة مشفرة تكشف عن مخبأ أسرار الكأس المقدسة. هذا الكأس التي تتضح معالمها وأسرارها من خلال لوحة دافنشي "العشاء الأخير".

يعرض تيبينغ أمام صوفي لوحة العشاء الأخير التي تصور يسوع المسيح وحواريه في اللحظة التي أعلن فيها أن أحدهم سيخونه، ويأخذ في شرح دلالات اللوحة، وأقداح النبيذ الثلاثة عشر قدحاً التي أمام حواريه، ليصل في تفسيره أن الكأس المقدسة ليست شيئاً مادياً، بل هي في الحقيقة شخص محدد، إنها امرأة، وحين تدقق الصوفي النظر في اللوحة تكتشف وجود امرأة على يمين المسيح. صبية صغيرة في السن، ويبدو عليها الورع، وذات جسم يتسم بالرزانة والحشمة. كانت ثيابهما متعاكسة في اللون، فيسوع يرتدي ثوباً أحمر وفوقه عباءة زرقاء، وهي ترتدي ثوباً أزرق وفوقه عباءة حمراء. وعندما تسأل عنها يجيبها تيبينغ أنها مريم المجدلية، وبتلقائية تقول صوفي "المومس".

يأخذ تيبينغ في الدفاع عن مريم المجدلية، بأنها لم تكن مومساً، بل هذه الفكرة من الإرث التاريخي الذي خلفته الكنيسة لتشويه سمعتها في محاولة للتغطية على سرها، وعن دورها كأنثى أو كأس مقدسة. ثم يذكر أن يسوع ومريم المجدلية كانا زوجين، ودافنشي كان يعلم ذلك من السجلات التاريخية، ولوحة العشاء الأخير هي صرخته للعالم للفت نظرهم إلى أن يسوع ومريم المجدلية كانا زوجين. يسعى تيبينغ إلى اقناع صوفي بزواج المسيح، وبالتأكيد على أن يسوع كان يهودياً، واليهودية تحرم أن يكون الرجل أعزباً، لذا تزوج من مريم المجدلية ومنحها وراثته حين شعر بقرب الفتك به وصلبه، ويستند في ذلك إلى وثائق البردي التي عثر عليها في واحة حمادي والبحر الميت، وهي تؤكد هذا الزواج بما يتعارض مع الرؤية المسيحية التي تشير أن يسوع عاش أعزباً.

إن حقيقة الكأس المقدسة ووثائق الدم الملكي تتنافى مع ما جاء في الأديان عن حقيقة المسيح، وتنفي أن المسيح نبياً وولد من أم عذراء، وتعتبره شخصية تاريخية. الأخوية الماسونية هي التي تمتلك الحقيقة، كما تذكر الرواية وكتب التاريخ، لذلك تحاربها الكنيسة، وتحاول الاستيلاء على وثائقهم ومنعهم من كشفها لأنها سوف تنسف كل الأسس التي قامت عليها الكنيسة وكذلك الانجيل الكتاب المقدس. وما يؤكد ذلك ما أشارت إليه بعض الكتابات أن الماسونية ترفض قبول أعضاء ملحدين بين صفوفها، فالملحد هو منكر للأديان بالضرورة، ومن الصعوبة اقناعه بفكرة الدين، وهي تريد أن تزرع في العضو فكرة الدين الجديد، لذا تشترط الإيمان بالأديان.

إن ضرب أسس المسيحية وحقيقة المسيح وأمه مريم، يضرب في صميم الدين الاسلامي في سورة مريم وما جاء فيها عن المسيح أنه ولد من أم عذراء، وأنه نبي مرسل، وبالتالي التشكيك في الأديان السماوية.

يغوص الكاتب مع وثائق تيبينغ التاريخية عن السلالات الملكية، لنكتشف مع ذهول صوفي أن مريم المجدلية من سلالة بنيامين (اليهودية) وهي سلالة ملكية، وأن يسوع من سلالة داوود (يهودية) فهو سليل الملك سليمان، ملك اليهود، وبزواجه من عائلة بنيامين ذات النفوذ يكون قد وحد بين سلالتين ملكيتين بشكل يتم فيه خلق اتحاد سياسي قوي مع امكانية المطالبة شرعاً بالعرش، وإعادة سلالة الملوك كما كان الأمر في عهد سليمان.

وهذا ما تسعى إليه الماسونية في إعادة ملك سليمان، والتأكيد على أن أصول المسيحية والسلالات الملكية في أوربا هي أصول يهودية، لذا دفعت الفاتيكان إلى التراجع عن اتهام اليهود بصلب المسيح، حتى تنهي الصراع بين اليهودية والمسيحية في هذه المسألة، ولكي يتوحدوا بالعمل لعودة ملك سليمان. لهذا نشأت العديد من الفرق المسيحية كالبروتستانتية والانجليكية التي تطلب بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة.

وجاءت الرموز التي استمدها لانغدون في تفكيك لوحة العشاء الأخير، تؤكد على اتحاد الذكر مع الأنثى، فالذكر هو يسوع الذي يحمل رمز المثلث ويمثل قضيب الرجل، والأنثى هي مريم المجدلية وهي عكس رمز الرجل تحمل مثلثاً مقلوباً ويمثل رحم الأنثى. وحينما يتداخل المثلثان ينتجان النجمة السداسية. من هنا تم ترسيخ العلاقة بين الديانتين اليهودية والمسيحية، وجاء اعلان البابا بنديكتوس السادس عشر عام 2011 أن اليهود ليسوا مسؤولين عن موت المسيح.

ويفجر تيبينغ قنبلة أخرى، إذ يؤكد أن المسيح لم يتزوج فقط بل أنجب ابنة، وكان أبا. فقد كانت مريم المجدلية الوعاء المقدس الذي حمل سلالة يسوع الملكية، فهذا هو أكبر سر في تاريخ الإنسانية، لذلك فإن أسطورة الكأس المقدسة التي حملت الدم المقدس تدور بكاملها حول السلالة الملكية. ويؤكد أن هذا الموضوع لم يختص فقط بدافنشي، فثمة عشرات الكتب التي تحدثت عن هذا الموضوع، ويذكر أسماء هذه الكتب، ومن أهمها الكتاب الملهم لدان براون "دم مقدس، كأس مقدسة" الذي يعد الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم.

لقد كانت مريم المجدلية هي التي أنجبت السلالة الملكية التي تحكم أوربا اليوم، لأنه بحسب معلومات أخوية سيون، أن مريم المجدلية كانت حاملاً عندما صلب يسوع، وحفاظاً منها على سلامة جنينها هربت من الأرض المقدسة بمساعدة عم المسيح يوسف إلى فرنسا، ووجدت الملاذ الآمن في المجتمع اليهودي، وأنجبت ابنتها التي اسمتها سارة. وهذه الابنة هي سليلة ملوك اليهود داوود وسليمان، وقد صاغ المؤرخون شجرة عائلة وكل الأحداث التي مرت على مريم وابنتها، وتعتبر هذه الوثائق من أسرار الكأس المقدسة.

وقد ازدهرت سلالة المسيح في الخفاء، وتحت أسماء مختلفة في فرنسا حتى قامت بحركة جريئة في القرن الخامس عندما اختلطت عن طريق الزواج بالدماء الملكية الفرنسية، فخلقت سلالة تعرف بالميروفنجية. وسعت الفاتيكان في أواخر القرن السابع إلى التخلص من ملوك هذه السلالة حتى أصبحت شبه منقرضة، ولكنها أنجبت غودفروا دو بويون مؤسس أخوية سيون من سلالتها، والذي نقل وثائق الكأس المقدسة من مخبئها تحت هيكل سليمان، وبقيت أخوية سيون محافظة على هذا الإرث وتحميه بكل قوة.

إن تاريخ الكنيسة مليء بالدماء والعنف بهدف الحصول على أسرار الكأس المقدسة، لذا تسعى للتخلص من رجال الأخوية في محاولة للحصول على كنزهم، وإذا عثرت الكنيسة على الكأس المقدسة سوف تتخلص منها لكي تمحو آثار مريم المجدلية ووثائقها وأسرارها، ومع ضياع وثائق الدم الملكي ستضيع الحقيقة إلى الأبد، وتكون الكنيسة قد كسبت حربها ضد الأخوية، وتعيد كتابة التاريخ الذي سيمحو الماضي إلى الأبد. لأن التاريخ دائما يكتبه المنتصر، وعندما تقع حرب بين حضارتين، تنفى الخاسرة إلى غياهب النسيان، ويصنع الفائز كتب التاريخ، كتب تمجد قضيته وتحقر الخصم، كما قال نابليون مرة: ما التاريخ إلا كذبة، تم الاتفاق عليها.

*****

أثناء حديث تيبينغ ولانغدون عن السلالات الملكية، وأن السلالة الميروفنجية قد انقرضت ولم يتبق منها إلا عائلتين من سلالة المسيح يعيشون إلى اليوم وهما عائلة بلانتار، وعائلة سان كلير، وتعيشان في مكان سري غير معروف تحت حماية الأخوية. حين سمعت صوفي ذلك عادت بذاكرتها إلى كلام جدها سونيير حين قال: أميرتي، يجب أن أطلعك على حقيقة عائلتك، ولكنه مات قبل أن يطلعها، إلا أنه كان حريصاً على اطلاعها من خلال الأسرار والألغاز والرموز التي سطرها، حتى وصلت إلى الصندوق الذي يحمل الأسرار، حينها سرت قشعريرة في جسدها، دم ملكي .. الأميرة صوفي. فقد شعرت أنها قد تكون من إحدى هاتين العائلتين. مستندة إلى ما قاله تيبينغ لها: إنك لن تجد الكأس المقدسة بل هي التي ستجدك، لذا فأنا، تقول صوفي، متأكدة من أن الكأس المقدسة قد جاءت إلي أنا لسبب ما، وعندما يحين الوقت سأعرف ما الذي علي القيام به.

بعد أن يفتح لانغدون الصندوق ويطلع على الخريطة (ورق البردي) بداخله، والقصيدة التي كتبها سونيير وتحمل رموزاً توصل إلى مكان الكأس المقدسة، يأخذ في مغامرة مع لأي تيبينغ إلى عدة كنائس في بريطانيا للبحث عن مكان الغريل، وعندها يكتشف حقيقة السير لأي تيبينغ أنه وراء كل المؤامرات التي أدت إلى قتل سونيير ورفاقه من الأخوية، وهو محرك أوبوس داي من خلال أجهزة التنصت التي يضعها في كل مكان، ويتحكم فيها من خلال منزله في باريس.

بعد مغامرة وصلت إلى حد تهديد لانغدون وصوفي بالموت من أتباع تيبينغ، وتهديد لانغدون بتحطيم الكريبتكس، واكتشاف الشرطة حقيقة تيبينغ بعد تفتيش منزله، تبدأ الشرطة في مطاردة الكل وحاصرتهم في الأماكن التي يذهبون إليها حتى تلقي القبض على تيبينغ وأتباعه، وتمكن لانغدون وصوفي من الهروب منهم والوصول إلى حقيقة ألغاز سونيير وأسراره.

يصلان إلى كنيسة روسلين في لندن التي أشار إليها سونيير في رسالته، فيجد أن الكنيسة تحمل العديد من الرموز التي ترتبط بالديانة اليهودية، فثمة نموذج يحاكي الجدار الغربي لهيكل سليمان، وعلى أرضيتها نجمة داوود (شعار سليمان)، والسيف والقدح وهما نجمة داوود، وعمودان يمثلان نسخة من مدخل هيكل سليمان، ويشير لانغدون أن كل معبد ماسوني في العالم يحتوي على نفس هذين العمودين. وتتذكر صوفي أنها زارت هذا المكان وهي صغيرة مع جدها.

لقد كانت رسالة سونيير الغامضة ليست سوى وصول صوفي إلى عائلتها، فهذا الشاب دليلهما في الكنيسة لم يكن إلا شقيق صوفي، وحين يشاهد الصندوق الخشبي معها، يسألها من أين أتيت به، حيث أن جدته لديها نفس الصندوق تضع فيه مجوهراتها. مما أثارهما حديث الشاب عن جدته التي ترأس لجنة كنيسة روسلين، وصندوقها الذي صنعه جده لها، وهذا ما دفع صوفي للذهاب نحو البيت القديم المجاور للكنيسة، لتجد جدتها قابعة في المنزل تحمل صورة وتبكي على موت زوجها سونيير بعد أن علمت بموته الليلة الماضية، تتعرف على صوفي وتحتضنها، وتروي لها قصة اختفائهم للحفاظ على سلامتها بعد وفاة والدها ووالدتها في حادث سيارة سببه غير معروف، مما جعل الأخوية تخشى أن تكون هوية السلالة قد كشفت، فهما من أصول العائلتين الميروفنجتين اللتين تتحدران مباشرة من سلالة مريم المجدلية ويسوع.

يتعرف لانغدون على جدة صوفي واسمها ماري شوفيل، ويدور بينهم حديث عن أسرار الأخوية وجاك سونيير، فتعدل ماري له العديد من الأفكار التي سمع عنها مثل نهاية الأيام أو نهاية العالم، أو موعد الكشف عن أسرار الغريل، تقول: فما نهاية الأيام إلا أسطورة اختلقتها عقول مريضة، فليس هناك في مذهب الأخوية يعرف أنه تاريخ محدد يتم فيه الكشف عن الغريل، والأخوية تؤكد دوماً أن الغريل يجب ألا تكشف أبداً. إن الغموض والسرية التي تلف الغريل هي التي تغني أرواحنا لا الغريل بذاتها، وجمال الغريل يكمن في طبيعتها السحرية.

ها يعني أن الغريل لن تكشف أبداً ولن يعرف مكان وثائقها، لذل يحاول معها لانغدون للتعرف على مكانها خوفاً من ضياع قصة مريم المجدلية وسلالتها الملكية إلى الأبد، إلا أن ماري تؤكد له أنها لن تضيع، فإن قصتها تروى في الفن والموسيقى والكتب، ويزداد ذكرها كل يوم أكثر من قبل.

لكن لانغدون يصر على الوصول إليها لأن قصيدة سونيير تشير إلى روسلين، وتذكر أن سيفاً ورمحاً يقومان على حراسة الغريل. وكان اعتقاد لانغدون أن السيف والرمح بدلالتهما المادية، ولكن تفسير ماري لهما يحرفان وجهة نظره نحو رمزيتهما بما يتطابق مع المثلثين للذكر والأنثى، فالسيف مثلث يمثل الذكر، والقدح مثلث مقلوب يمثل الأنثى، وحينما يتداخلان يشكلا النجمة السداسية (نجمة داوود)، فهي الحارسة لكنز الكأس المقدسة. وحينما ينظر لانغدون نحو النجوم التي تظهر في سماء روسلين، كانت هناك نجمة وحيدة إلى الشرق تلمع أكثر من أية نجمة أخرى. وفي رأينا ما النجمة الوحيدة في الشرق إلا اسرائيل حارسة الكأس المقدسة.

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات