الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

غسان كنفاني: الراحل الذي ما زال حيا

  • 23:40 PM

  • 2021-07-08

رجب أبو سرية:

لو أنه عاش حياة عادية, لكن له من العمر, هذه الأيام, خمسة وثمانين عاما, أي كان يمكنه أن يكون مازال على قيد الحياة, فكثير من مجايليه, لو يموتوا الميتة الطبيعية بعد, لكن لأنه لم يكن شخصا عاديا, رحل بجسده مبكرا, بفعل اغتيال صهيوني, وضع له المتفجرة بسيارته الخاصة التي كانت رابضة في حي الحازمية ببيروت, بقرار من رئيسة الحكومة الإسرائيلية آنذاك جولدا مائير, التي عقبت على خبر النيل منه بالقول, بأن إسرائيل قد تخلصت بقتل غسان كنفاني من كتيبة كاملة من الفدائيين !

تسعة وأربعون عاما مرت على رحيل غسان كنفاني, وما زال حيا ماليء الدنيا وشاغل الناس, وحقيقة الأمر, أن ذلك لم يكن فقط, عائدا لكتاباته وإبداعاته الأدبية وحسب, ولا لكونه مناضلا قائدا في تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, كذلك لا يعود إلى أنه قضى شهيدا, كما يليق بالفلسطيني الذي عاش لحظة نكبة العام 1948, ثم فصول التشرد التالية, إلى أن ثار على خيمة التشرد, ليسكن خيمة المقاتلين, ولكن لجميع كل هذه الأمور معا, وكذلك لكونه كان شخصا متفردا بمواقفه وقيمه وأفكاره .

تسعة وأربعون عاما مرت, تغيرت الدنيا, إلا في تعلق الأجيال الفلسطينية وحتى العربية بشخص ومواقف وكتابات كنفاني, ومن يتابع هذه الأيام, المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي يدرك حقيقة ما نقول, فحضور كنفاني كأيقونة فلسطينية نادرة, يقول بأن كل هذا الحب وكل هذا التعلق به, إنما هو تعلق حر, فلا أحد يجبر أحدا في المواقع الالكترونية على الأهتمام به, وليس هناك من مؤسسة رسمية أو شبه رسمية, تقوم بهذا, وهذا ما يؤكد بأن ما ينفع الناس يبقى في الأرض.

كنفاني كان فلسطينيا بامتياز, شهد على نكبة العام 48 فتى, له من العمر اثنا عشر عاما, ثم عاش فصول التشرد شابا, من لبنان إلى الكويت, مرورا بسوريا, جرب الحل الفردي, الذي كتب عنه في "رجال في الشمس", لكنه أيقن بأن لا حل فرديا لتشرد الفلسطيني, إلا بالثورة, وهكذا كان أن استقر به المقام سريعا في بيروت, حيث معقل الثورة المعاصرة, مناضلا ثوريا, ورئيسا لتحرير الهدف التي أسسها, ثم متابعا مشروعه الثقافي العضوي, بكتابة الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات, سائرا على الحبل المشدود, جامعا السياسي/الوطني, مع الثقافي الملتزم, بما يؤكد خياره كمثقف عضوي, يكشف عورة الجبناء من الكتاب والمثقفين, الذين يرفعون شعار الفصل ما بين السياسي والثقافي, لتمرير خطاب التمويه والتضليل .

ستة وثلاثون عاما فقط, كانت كافية ليظل كنفاني حيا طوال خمسة عقود تلت, وربما سيظل كذلك إلى الأبد, فهو الذي ربما لم يختر بمحض إرادته أن يكون فلسطينيا, لكنه اختار بمحض أرادته أن يكون فلسطينيا مناضلا, يسعى من أجل تحرير فلسطين ومن أجل حرية شعبها, وكان يمكنه أن يبقى يعمل في الكويت, ويعيش حياة شخصية مستقرة, أو حتى أنه كان يمكنه أن يلجأ للكتابة ليتحقق على الصعيد الشخصي, لكنه اختار أن يكون غير ذلك, بل إنه اختار اليسار السياسي, وهو المتمرد بالطبيعة, والذي كان يثور على النمطي والتقليدي, وما كان يجد نفسه, بمجرد أن يكتب ما هو مبدع من الأدب, بل زاوج بين الإبداع الأدبي, والنقد والبحث, كذلك كتابة مقال الموقف السياسي والثقافي, ورغم أنه اضطر أحيانا للتوقيع باسم "فارس فارس" أو "أبو فايز" حتى تكون مواقفه أكثر فاعلية, وتجنبه معارك جانبية لا يسعى لها, إلا أنه قال ما أرد أن يقوله, وفعل ما أراد فعله .

واليوم بعد مرور نصف قرن على رحيل كنفاني, فإن كل كاتب أو مهتم يريد أن يقف عند السر الذي حفظ له كل هذا الحضور, الذي يطغى على حضور من ما زال حيا من الكتاب, فلا بد له أن يقر بالحقيقة التي تؤكد بأن الكتابة إنما هي موقف, وليست "شطارة" أو موهبة, تقدم خدمة التسلية, أو ما شابه من مهارة اللعب بالحروف أو الكلمات, كما أن الإبداع الملتزم لا ينحصر في أيديولوجيا أو مذهب, فقد تحول كنفاني بأدبه وشخصه والتزامه إلى إيقونة للأجيال الفلسطينية والعربية الشابة التواقة للحرية .

هنا نستذكر ما قاله الكاتب الراحل يوسف إدريس, حين قدم لأعمال كنفاني القصصية الكاملة, حيث قال: الفخر شعرت به مرتين, والمرتان مرتبطتان بغسان كنفاني, والأولى كانت واقعة استشهاده, حيث شعرت بالفخر كوني كاتب, ارتقى غسان باستشهاده بالكتابة إلى حدود الشهادة, والثانية حين كلفه ورثة كنفاني بتقديم تلك الأعمال, والجميع يعرف من هو يوسف إدريس, الذي كان يعد نفسه رئيس جمهورية الأدب .

عاش كنفاني إذا ملهما, ومات باعثا لروح الثورة, فقد خرج في جنازة رمزية له يوم رحيله في مثل هذا اليوم الثامن من تموز/يوليو من العام 1972 عشرات الكتاب المصريين العظام في القاهرة التي كان ممنوعا على كنفاني دخولها شخصيا أو أدبيا, في عهد أنور السادات .

هكذا يمضي الرجال, وتبقى مواقفهم وكتاباتهم التي تصدق الناس, وتنفعهم في حياتهم, ولا تبيعهم الوهم أو الدجل, لذا فإن في ذكرى رحيل كنفاني كل عام, مناسبة لكل كتاب الدنيا, وأولهم الكتاب العرب والفلسطينيون, تفتح لهم خيار أن يبقوا في الأرض بعد رحيلهم, شرط أن يكتبوا الحقيقة, التي سعى كنفاني لها دائما, ورفعها شعارا للهدف التي أسسها ورئس تحريرها, وظلت تقاتل من بعده, " الحقيقة, كل الحقيقة للجماهير", وقد اختار كنفاني أن يبقى دائما إلى جانب الجماهير الشعبية, ولم يطرق يوما باب حاكم أو بوابة مؤسسة ولم يسع يوما إلى مكافأة أو جائزة مالية تقدمها جهة رسمية أو دولة نفطية, وعاش حياته يكتب ويناضل ليل نهار, رغم أنه لم يعش طويلا, وكان مصابا بداء السكر, ثم دفع دمه وحياته ثمنا لاختياره أن يقف ضد الاحتلال والاستعمار والاستغلال, فظفر بحب الناس وبالخلود بعد الموت, ولم يكن الموت قضية تؤرقه رغم حبه للحياة, وقد قال بأن الموت قضية الباقين, فبقي هو وما زال هناك ميتون من بعده وإن كانوا ما زالوا على قيد الحياة, يكتبون لغوا, أو يعيشون كشاهدي زور على الظلم والجور والطغيان .

الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها وليس بالضرورة أنها تعبر عن الموقف الرسمي لـ "ريال ميديا"

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات