الجمعة 19 ابريل 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

قصة قصيرة:

"الحفلة"

  • 00:51 AM

  • 2020-11-03

زينة حموي*:

تتمهّلُ قليلاً عند الباب، تقفُ أمامَ مرآةِ المدخل لتسوّي غرَّتَها وتتأكدَ من حسن مظهرها، ثم تدخلُ إلى قاعة الحفلة. ازدحامٌ شديد وجلبة وناسٌ بهيئات مختلفة يملؤون المكان. يرفع أحدُ الحاضرين صوتَه مشيراً إلى المرأة الجذابة:

ها قد وصلت "السعادة"! متأخرة طبعاً، كعادتها.

يلاحظها بعضُ الحضور، ويسرعون نحوها طمعاً بمجاورتها أطولَ وقت ممكن من زمن الحفلة المجهول. لطالما حيّرتْ هذه السيدة المغرية والمحبوبة مريديها الكُثُر. تبدو سهلةً ومتاحة لكنها في الواقع مزاجيةٌ جداً وغريبةُ الأطوار. تتوسّطُ من تجمَّعَ حولَها من الحاضرين، وتبهرهم بسحرها وملامحها الآسرة العصيّة على الوصف. تراوغ في الإجابة على أسئلتهم الفضولية، وتتجاهلُ بذكاء محاولاتهم في مراودتها عن نفسها. تضحكُ بغنج، وتدندنُ ألحاناً حلوة فيثنون عليها ويطلبون المزيد. ثم ينشغلون عنها بمناقشة سرّ فِتنتها والطرق المثلى للفوز بها، فتنسحبُ من بينهم بخفّة وتتوارى وتضيع وسطَ الحشود.

في إحدى الزاويا، يقفُ رجلٌ دميمٌ ضخم الجثة. له عينٌ معصوبةٌ برباط أسود، والأخرى تميّز الأشياء بصعوبة حتى يبدو وكأنه أعمى أو أعور، إنه "الظلم"! يقتحمُ بفظاظة حلقات ومجالس الحاضرين، يرفعُ صوتَهُ الأجشّ ويستأثر بالكلام. يروي قصصاً فظيعة من سيرته ويتبجّح بجبروته وقسوته. يحكي عن إنجازات أجداده في التاريخ، عن الحروب والاستبداد، عن صراعه الأزلي مع غريمته "العدالة" ويصفها بالـ "الكذبة الكبرى". يحكي عن المحاولات البائسة لمقارعته من قبل المرأة، تلك المخلوقة النقاقة ناكرة المعروف والمتمردة على الأعراف والأديان. ولا يخجل من استعراض جولاته حتى في قصص الحب! يرهبُ "الظلمُ" المستمعين ويسمّرُهم أمامَه خائفين، فيما يفكّر كلٌ منهم بطريقة آمنة للانفضاض عن مجلس هذا العربيد.

في زاويةٍ أخرى، تجلسُ بمفردها سيدةٌ أنيقة. ترتدي فستاناً أسود له ياقةٌ بيضاء مُنَشّاة، وتزيّنُ كُمَّيه تطريزاتٌ زهرية باهتة. على رأسها قبعة كبيرة تخفي جبهتَها وتجعلُ نظرتَها أكثر غموضاً. تراقبُ الحاضرين قليلاً، وتكتفي بسماع ما يصلها من همهمات أحاديثهم من دون أن تفكر أبداً في الانضمام إليهم، ثم تحوّلُ حواسَها عنهم وتنشغلُ بتأمل شيء ما. تراها من بعيد سيدةٌ أخرى، تماثلها في العمر تقريباً لكن هيئتها أقلُّ كِياسةً ورزانة، اسمها "الشفقة". على وجهها تغضّناتٌ حفرتْها العاطفة وفي نظرتها نوعٌ من الحنان الظاهر. تتجه بسرعة نحو السيدة الأنيقة وقد أثارَ تعاطفَها شرودُ تلك المرأة وانزواؤها. يعترضها أحدُ الحاضرين بيده سادّاً طريقها بنصيحة:

اتركيها، لن تستطيعي كسرَ عزلتها، إنها "الوحدة"! لطالما عُرفَتْ بصمتها وخصوصيتها. كما أنها حساسة جداً، قد تفسّرُ أي اقتراب منها على أنه خدشٌ يسيء إلى طبيعتها. لا تشغلي بالك، هي تعرفُ تماماً أصدقاءها الحقيقيين وتعرفُ أيضاً أين تلتقيهم ومتى. ترافقُ أحياناً الشعراء والكتّاب والمبدعين والحالمين، وأحياناً أخرى نراها تبكي بصحبة أرملة أو عاشقة أو شخص منبوذ. لا أحد يعرف بدقّة من يختار الآخر، هي أم أصحابها. لذا دعكِ منها، واحفظي لها هالَتَها.

تُرَبِّتُ "الشفقة" على كتف محدّثها وتشكره. ثم تروح بسرعة لتبحث من جديد بين الحاضرين عمّن يحتاج دعماً أو مساعدة. كثيراً ما تتعبُ "الشفقة" وتتشظى بين مآسي الناس وحاجاتهم، تلومُ قلبها الرقيق لكنّها تُخلِصُ له، وتمرضُ سريعاً إذا ما أصابَه استعلاءٌ أو غرور.

على طاولةٍ مستديرة يجلسُ عددٌ من المدعوين؛ شبابٌ ورجالٌ وكهول وشيوخ، يتحدثون في مواضيع مختلفة، يتناقشون، يختلفون، يتجادلون ويصيحون. يحتدمُ الحوار بفعل أسئلة "الشك" ، هذا الرجل الذكي واللعين في آن، يستطيع بمداخلاته أن يذهب بالأفكار أعمق وأبعد ويأتي بأجوبة أكثر دقة وتنوّعاً. كما أنه لا يستسلم بسرعة، بل يحرّضُ بتردّده على التفكير والتأمل. لكنه من جهة أخرى مُتعِبٌ ونمّام، باستطاعته أن يزعزع بيوتاً وقلوباً وبلاداً بحالها. يرمي كلماته بلا رحمة: "ماذا لو...؟"، "قد لا يكون....."، "هل أنتم واثقين بأن الـ....؟". يصف محاوريه بالسذاجة والطفولية، ويبتسمُ ساخراً من حديث "الصدق".

على الطاولة أيضاً شابٌ وسيم، مهذّب، على وجهه ابتسامة دائمة، وفي عينيه بهاءٌ وإشراق. وكلما بدا أن حديثَ أحدٍ ما سينحو صوب مناطقَ معتمة أو دروب مغلقة تدخّلَ بأفكاره الخلّاقة وحلوله الحاضرة والمتجددة، إنه "الأمل"!

إلى جواره يجلسُ رجلٌ تعيسُ الملامح اسمه "اليأس". وجهه أصفر من طول اعتلال، ينهي أي حوار بكلمة واحدة لا يملُّ من تردادها: "لا فائدة!". إنه ابن الفشل وربيب الحزن المزمن.

تستمرُّ الحفلة، والحاضرون في أوج صخبهم ونشاطهم. يتجمّعون في حلقاتٍ ومجالسَ مختلفة ليتعارفوا ويتفاعلوا، ثم ينفضّون نحو تشكيلات أخرى. يتحالفون ويتعادون، يشعّون ويخفتون، يأكلون ويشربون، لا يشبعون بسهولة ولا يرتوون، وقد يسكرون ويتقيؤون ويمرضون، لكنهم مع ذلك يبقون!

يقتربُ أحد أزلام "الظلم" من معلّمه ويهمس له:

- سيّدي، عميلتنا السرية "الانتهازية" كانت في المطبخ، وسمعتْ أن صاحبةَ الحفلة تحضّر مفاجأة كبرى ستذهل بها الحاضرين جميعاً وقد تلعبُ بمصائرهم من جديد.

يسألُ "الظلم" بتوجّس:

- أيّ نوع من المفاجآت؟

- لا نعرف يا سيدي.

- أين "الانتهازية"؟

- لقد هربتْ يا سيدي، وقالتْ إنها ستبحثُ عن حفلةٍ أخرى.

- هل هربتْ لوحدها؟

- طبعاً سيدي، لم تخبر أي شخص بما سمعتْ ولم تحذّر أحداً. ولولا ضغطُ رجالنا عليها عند الباب، مقابل تَركِها تخرج، لما علمنا شيئاً.

يهمسُ "الظلم" كازّاً على أسنانه:

"حقيرة"

ثم يقول لتابعه آمراً:

"اجمع الرجال ولنخرج من هنا نحن أيضاً. صاحبةُ الحفلة مجنونة، ولا نعرف أي نوع من المفاجآت تخبّئ لنا. لن نبتعدَ كثيراً، سنتوارى هنا في الحديقة ريثما تتضح الأمور، إذ من الممكن أن تكون المفاجأة من النوع الذي يستهوينا ويكون لنا فيها نصيبٌ كبير من العمل."

ينسلُّ "الظلم" من قاعة الحفلة من دون جلبة. وعند الباب، يلمح ببصره الضعيف "السعادة" وقد همّتْ أيضاً بالخروج وهي تتأبطُّ ذراع سيّدٍ ذي إطلالةٍ فاخرة وفريدة، يرتدي زيّ ساحر، ويمسكُ بيده عصا عجيبة. لقد عرفَهُ "الظلمُ" فوراً، إنه "الحظ"! رجلُ اللامنطق والتحالفات الغريبة. سبق وأن تحالفا أكثر من مرة وكانت لشراكتهما نتائج تدميرية مذهلة.

يخرجُ حاضرون ويدخلُ غيرُهم ويتبدّلُ الزوار. آخرون غافلون يستمرون في الأكل والشرب واللهو والكلام. مظاهر الحركة لا تنقطع، قد تخبو قليلاً لكنها موجودة دائماً، فالحفلة لا مكان فيها للسكون، ولا ديمومة عندها للثبات المطلق أو الصمت النهائي.

يمضي زمنٌ ما، ثم يرجُّ صوتٌ هائل أركانَ المكان وتبرقُ سماءُ الحفلة بضوءٍ باهرٍ يعمي الأبصار.

............................................................

تحت التراب يختلفُ التفسير؛ يقول أحدهم:

"إنها ألعابٌ نارية."

فيهزأ منه آخر:

"أي ألعاب نارية يا غبي! هذا تفجير إرهابي بلا شك."

يقولُ ثالث:

"لا هذا ولا ذاك، إنه بركان. الطبيعة أقوى من أي شيء، ولابدّ لها أن تقول كلمتَها بين حين وآخر."

يعلو صوتُ أحد الشيوخ:

"اصمتوا، لن نحزرَ أبداً بهذه الطريقة. ربما يأتي إلينا أحدٌ ما قريباً، فلنأمل ألّا يكون مصاباً بما أصابنا، وأن يكون قد احتفظ باسمه أو بشيء من ماضيه وذاكرته."

يصلُ إلى العالم السفلي رَهْطٌ من النساء والرجال، فيستقبلهم سكان التراب بأسئلتهم المستنجدة والمُلِحّة:

"أين كنتم؟ كيف وصلتم؟ كيف الحال فوق؟ هل من جديد؟ هل مازالت الحفلة مستمرة؟ من منكم كان ظالماً ومن مظلوماً؟ من كان وحيداً؟ هل يوجد بينكم متفائلون؟ السعادة، ما أخبار السعادة؟ هل جلبتم لنا "الحظ" معكم؟ احكوا لنا، قولوا، من أنتم؟"

يتبادلُ الوافدون الجدد نظراتٍ حائرة ويديرون رؤوسهم بحركات نافية، ثم يجيبون معاً:

"لا نعلم. لقد فهمنا كلّ أسئلتكم لكننا لا نذكر شيئاً عن أنفسنا وأحوالنا فوق. لم نحمل معنا إلى هنا أي شيء، لا حظاً ولا يأساً ولا أملاً ولا سعادة، كأن الحفلة قد جرّدتنا من كل ما يخصّنا قبل أن تلفظنا خارجها. لقد نسينا، نسينا كلّ شي.".

*سوريا:

 

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات