الخميس 28 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

سحر الخرافة بين الكتابة الروائية والتقنية السينمائية

في رواية "الفيل الأزرق"

  • 23:22 PM

  • 2020-10-23

د نانسي إبراهيم *:

للخرافة سحر خاص يجذب العامة والخاصة،الكبار والصغار،العَالِم والأُمي نحو عالم خفي لا يمكننا الوصول إليه،أو معرفة أسراره كاملة، فهي مادة خصبة مهيئة سلفا لسحر الحكايا التي لا تخضع لثوابتنا العلمية والمنطقية والخيال المألوف لكتابة الرواية،فقد جذبت مخيلة الروائيين حيث توفر لهم الكثير من عناصر الدهشة والإيهام القابل للإقناع والتصديق إذا كُتبت عبر سرد محكم وشخوص مرسومة بدقة وعناية وأحداث يسلم كل منها للآخر بصورة ديناميكية،وهذا هو ما فعله" أحمد مراد " في روايته(الفيل الأزرق) الصادرة عن دار الشروق عام ٢٠١٢ في أربعمائة واثنتين وأربعين صفحة من قطع روايات الجيب، والتي توالت طبعاتها،كما تم نقلها إلى عمل سينمائي يحمل العنوان ذاته في جزأين، غير أن الجزء الثاني لم يكن مسبوقا برواية أخرى،لذا فسوف أكتفي بالحديث عن العمل ذي الأصل الروائي،حيث وصلت الرواية للقائمة القصيرة للبوكر عام ٢٠١٤ بعد عدة روايات للكاتب حيث كتب روايته الأولى"فيرتيجو" عام ٢٠٠٧،ثم "تراب الماس"،ثم "١٩١٩"، وكذلك "أرض الإله"،و"موسم صيد الغزلان"ومؤخرا "لوكاندة بير الوطاويط"والتي صدرت قبل شهر واحد فقط .

ونستطيع أن نتلمس الأسلوب المميز للكاتب حسب مقولة "بوفون":-

"الأسلوب هو الرجل نفسه" عبر نسيج سرده السينمائي واتكائه على الكثير من العناصر التي جعلت رواياته من أكثر الروايات مبيعا، رغم تفاوت لغة السرد ومستوياته التقنية والكتابية.

يدخلنا "أحمد مراد" عالم روايته الخفي عبر عنوان لا يحمل مدلولا واضحا لموضوع وفكرة الرواية،حيث تدور أحداث الرواية في عالم البرزخ بين الحقيقة والخيال،الجائز والممكن والمحتمل والكثير من الغموض الذي يغوص في أعماق العوالم الغيبية والنفسية من خلال شخصية الدكتور (يحيى راشد) الذي يعود إلى العمل في مستشفى العباسية بعد مرور خمس سنوات على وفاة زوجته وابنته في حادث سيارة كان يقودها،مما دفعه إلى الانعزال وإهمال رسالته الأكاديمية، بينما حمل ذلك الزمن آثار اللامبالاة وإدمان الكحوليات عليه حتى وصله إنذار من مقر عمله،وبعد مفاوضات مع رئيسته بالعمل(الدكتورة صفاء) يستقر الأمر على عودته للعمل في قسم "٨ غرب" وهو القسم الذي يضم مرتكبي الجرائم في شبهة خلل نفسي ما،تلك البداية التي سبقتها ظلال بعض الأحداث والشخوص تمهيدا لما سوف تحمله الصفحات التالية،كعلاقته بصديقته (مايا)،مرورا بالسائق الذي يحمل إليه خبر (سرقة المتحف الإسلامي) بصورة عابرة،مرورا ب(عم سيد) "أشهر مرضى المستشفى-ترزي عتيق،تخطى العقد السابع ولا يذكر أحد تاريخا لدخول-في حوار غامض وجملة ستحمل الكثير من الأحداث لاحقا؛"هو عارف أنك هترجع..مكتوب نتقابل عند الشجرة "!

عند استلامه عمله في قسم "٨ غرب"تظهر مفاجأة تقلب حياته رأسا على عقب،حيث يجد صديقه الدكتور "شريف الكردي" متهما في جريمة قتل زوجته بأن ألقاها من الطابق الثلاثين،فتبدأ الأحداث في التصاعد حيث رحلة الغموض والكشف تسير على نحو متواز،وتتجمع كقطع البازل المتناثرة ليكتمل المشهد عبر عوالم غرائبية وأحداث لا متناهية، فشريف هو أخ ل"لبنى" حبيبة "يحيى" السابقة والتي تزوجت بآخر، وقد تمت مقابلتهما مجددا في ذلك الموقف الدرامي،بينما تتوالى الأحداث حتى إسناد حالة " شريف" لحالة من حالات الاضطراب النفسي ما بين" الشيزوفرينيا"أو"السكيزوفرينيا"حتى التوصل بواسطة ملابسات غرائبية يرى خلالها(يحيى) صورا لصديقه مع زوجته (بسمة/القتيلة) في حالة من السادية الجنسية المصحوبة بتعذيب وحشي بآلة حادة في انتشاء واستعرض،ثم تبدأ جدلية الغياب والحضور بين عالمين متوازيين ومتناقضين في جسد واحد يتصارع داخله (عالم سفلي/وآخر علوي) حتى يتبين ل(يحيى راشد) أن من قام بهذا الفعل الذي أدى إلى جريمة القتل ليس صديقه شريف،بل شيطان يسكن جسد صديقه يدعى" نائل"،وبعد رحلة طويلة من الأحداث المشوقة والمثيرة والحوارات المكتوبة بحرفية وإتقان،يعلم (يحيى) أن زوجة شريف قد قامت برسم "تاتو" وشما تسعى به للتقرب من زوجها دون علم منها بما يستدعيه هذا الطلسم النجس لجني يحل في جسد الزوج فينكح زوجته من خلاله دون علم منه،لكن في علم تام من راسمة الوشم (ديجا) التي تستطيع وحدها صرفه بعد ذلك عن طريق(عزيمة) تضعها في فم كلب أسود تقوم بعدها بقتله بالسم بنفسها بعد أن يتم القرب بين الزوجين وإزاحة حالة البرود والفتور بينهما،غير أن الكلب قد مات في هذه المرة من تلقاء نفسه،حتى أدركت أن هذا النوع من الجن نوع غريب يحل ولا ينصرف.

تستمر لعبة فك الشفرات بعد مقتل (مايا) عشيقة يحيى التي يحمل جسدها وشما آخر بعد علاقة جنسية معه تشبه علاقة شريف بزوجته مما أدى إلى انهيارها تحت عجلات سيارة بعد هروبها من منزل يحيى بعدما أهدته في بداية ليلتهما معا قرصا مخدرا يغيبه عن العالم المحيط في رحلة إلى العالم الآخر،حيث يفرز في المخ مادة "DMT" "ثنائي ميثيل تريبتامين" التي يفرزها جسد الإنسان عند الموت "أخرجت مايا من حقيبتها علبة شفافة صغيرة التقطت منها قرصا لون العاج،وعليه رسم لفيل أزرق بأربع أذرع،رافعا خرطومه إلى أعلى" في أول ربط بين عنوان الرواية(الفيل الأزرق) وأحداثها في صفحة ١٩٤ حيث ندرك أثر العنوان مع كل رحلة (ليحيى) بعد كل قرص ينقله إلى العالم الآخر في رحلة الكشف بحبكة مقبولة دراميا تجمع فسيفساءات الصورة عبر مشاهد سينمائية وسرد محكم.

(بين السينما والرواية)..

ثمة علاقة مشتركة ما بين العالم الروائي والسينمائي،فكلاهما يلهم الآخر ويستمد منه،حيث ترسم الرواية الفكرة والشخوص والأماكن والأحداث لغة،بينما تترجمها السينما لشريط مرئي،مع اختلاف آلية التناول ومراعاة النقل لملائمة الوسط الجديد Adaptation والذي يلتزم بالخطوط العريضة لفكرة الرواية وأهم أحداثها وشخوصها مع معالجة درامية باستخدام التقنيات السينمائية وإضافة المؤثرات البصرية والسمعية والتعبيرات المرئية وكتابة النص الوسيط (السيناريو والحوار)،وانتقاء الشخصيات بعناية،وكذلك أماكن التصوير،مما يشكل عوامل مهمة في نجاح العمل السينمائي أو إخفاقه.

لم يكن الأمر صعبا وليس سهلا كذلك مع عدة روايات لأحمد مراد،حيث إنه قدم في رواياته الكثير من العناصر الملائمة للنقل السينمائي، فهو يكتب بنفسه "السيناريو والحوار" الذي لم يفارق الكثير من أحداث الرواية ولغتها،بل وصل الحوار في هذه الرواية لأكثر من تسع صفحات متتالية،تم نقلها جميعها حرفيا داخل العمل السينمائي،كما تميزت روايته بمشهدية عالية،وتفصيلات خارجية وداخليه لشخوصها ساعدته عليها قدرته التصويرية حيث تخرج فعليا في المعهد العالي للسينما قسم التصوير السينمائي،وله أفلام قصيرة نال عنها جوائز عدة في مهرجانات دولية باانجلترا وفرنسا وأوكرانيا وإيطاليا.

أما الشخوص،فعند المقاربة الأولية بين الرواية والفيلم نستطيع الوصول إلى كل شخصية فيهما بمجرد رؤية ملامحها،وقبل الغوص في الأداء التمثيلي البارع لجميع المشاركين بالعمل،بداية من(كريم عبد العزيز/يحيى راشد)،الذي يبهر المتلقي دوما بتلقائية الأداء وبساطته المركبة كأجنحة فراشة متداخلة الألوان،والمارد العملاق (خالد الصاوي/شريف-نائل) الذي استطاع أن يجسد عالمين متوازيين ومتناقضين في جسد ووجه واحد بتفصيلات وتعبيرات عده تمتد عبر الملامح والصوت والحس والجسد،(ونيلي كريم/لبنى) بملامحها الجميلة الهادئة وخفة حضورها المطلوب لتجسيد دور امرأة تزوجت بشكل تقليدي تحاول إقناع نفسها بمحبة زوجها(خالد) في عجز تام عن التعبير عما يدور بداخلها،أو المساهمة في حل مشكلة أخيها مما يعرف دراميا بالبطولة السلبية أو البطل/اللا بطل الذي يفتقر لمواصفات البطولة التقليدية من حضور فاعل.

أما الشخصيات الثانوية/اللاثانوية فقد ساهمت في كثير من تنامي الأحداث،وكتبت بدقة بالغة روائيا،وترجمت سينمائيا بشكل لا يقل جودة وبراعة(مايا/دارين حداد) ،(ديجا/شيرين رضا)،(د.صفاء/لبلبة) ،(د.سامح/محمد ممدوح)،(عم سيد) وحتى العناكب والخنافس والكلب الأسود رسمت كمفردات أساسية لا كمكملات للمشهد..

أما (المؤثرات السمعية والبصرية) فقد استطاع المايسترو(مروان حامد)، والإنتاج الضخم ترجمة الخيال الصعب نقله-ذلك لأن الخيال دوما أكثر خصوبة واتساعا من الواقع لاسيما حين يتصل بعوالم غامضة تتصل بالسحر والجان لابد أن تتوفر لها عناصر الدهشة والإبهار حتى تحقق أثرا يكسر التوقع لجمهور ينتظر الكثير من عالم ما وراء الطبيعة-إلى عناصر مادية مرئية مسموعة عبر موسيقى (هشام نزيه) التي تشبه دهشة عالم غيبي ينقر على السمع والوعي والنبض بوتيرة تشبه البصمة،إضافة الي المؤثرات البصرية القادرة على الجذب والابهار بتقنيات الوقفة والتكرار والحذف ودمج الواقعي بالمتخيل في قالب فانتازي يواكب تقنيات السينما العالمية،مما جعل بعض المتلقين يقاربون بين هذا الفيلم وفيلم آخر في نقل،بل سرقة الفكرة من الفيلم الأجنبي The tattooist ..

(بين الواقع والخيال)..

ثمة أفكار لا يمكننا الحكم على صاحبها بالسرقة لعموميتها واختزانها ضمن الوعي الجمعي وإعادة انتاجها في سياق وتوظيف جديد دون حاجة لتوثيق مصادر النقل،ورغم ذلك فإن (مراد) قد وضع مصادره بين طيات روايته كخلفية للأحداث الواردة فيها،منها الكثير من التراث العربي الذي أورده في نسيج عمله الدرامي،فمنها قصة مذكورة في كتاب (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) للجبرتي،وتحديدا في أخبار ١١٩١ هه تقترب من فكرة الرواية إبان حكم المماليك حيث وردت فقرة بعنوان(الشيخ صادومة) تحكي أن أحد الأمراء اختلى بمحظيته فرأى على سوأتها كتابة،فسألها عن ذلك مهددا لها بالقتل،فأخبرته بأن الشيخ هو من قام بكتابة بعض التعاويذ ليقربها إلى سيدها،فقام الأمير بقتل الشيخ والجارية انتقاما منهما.

تلك القصة قد وردت صراحة في إحدى رحلات (يحيى راشد) نحو العالم الآخر تحديدا صفحة ٢٦٣،عبر حوار دار بين راسمة الوشوم وجارية المأمون وقد رسمت لها وشما على فخذها واعدة إياها بأن سيدها سيتقرب إليها وأن ذلك الطلسم سيتصدى لعمل سفلي و"هيفك عين أم الصبيان"!

أما فكرة الوشم/أو الطلاسم النجسة التي تستدعي الجان وتسخره،فقد وجدت في حضارات عدة لدى المشعوذين والسحرة في المغرب العربي وحضارات ما بين بلاد النهرين ومن ضمنها السومرية،والبابلية إضافة إلى الفرعونية والجاهلية،بل وردت فكرة المعاشرة الجنسية ما بين الإنس والجن في العديد من كتب التراث،منها (شمس المعارف) وغيره، تحت أسماء أخرى للجن مثل (ميمون النكاح)،وقصص استدعائه لذات الغرض للحلول في جسد الرجل يضاجع امرأته بقوته بدلا عنه.

ولسنا بصدد التحقق من نسبة الحقيقة إلى الخرافة في تلك القصص، بل الوصول إلى مدى تأثيرها حقيقة على المتلقي ونسبة إيمانه واقتناعه بها،ولاسيما أن القرآن الكريم والسيرة النبوية يعترفان بوجود الجن والسحر والمس،بل علاقة الإنس بالجن جنسيا،فيقول "ابن الجوزي في تفسيره لقوله تعالى:-"لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ" الرحمن/٥٦ "فيه دليل على أن الجني يغشى المرأة كالإنس" بل التناكح ما بين الإنس والجن وإمكانية حدوث حمل كذلك.

فنجد (أحمد مراد) يجمع بعض التفصيلات مضيفا إليها حادثة( سرقة المتحف الإسلامي) حقيقة ومواصفات قميص المأمون المسروق في قالب من التخييل والفانتازيا والعجائبية وعالم الأحلام والغريزة وغيرها من عناصر الواقعية السحرية التي أشارت إليها " إيزابيل الليندي" في ذكرياتها (بلدي المخترع) وغيرها من كتب الواقعية السحرية، حيث كان عالم الخرافة هو المفتاح السحري الذي فسر به ما لم يستطع تفسيره الطب النفسي في نسج درامي محكم لا يغفل تلك الروح المرحة التي تطل علينا بين آن وآخر في أحداث تجمع ما بين الجريمة والميتافيزيقا،بينما أصبح الحكم الأخير مستندا على قدرة الكاتب على ابتكار زاوية جديدة تجذب المتلقي سواء أكان من جمهور القراءة أو السينما أو كليهما.

 

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات