الجمعة 29 مارس 2024

  • أسعار العملات
    العملة سعر الشراء سعر البيع
    الدولار الامـريكي 3.78 3.8
    الدينــار الأردنــــي 5.35 5.37
    الـــيــــــــــــــــــــــــورو 3.04 4.06
    الجـنيـه المـصــري 0.1 0.12

الرسالة الثَّانية: حوارية الفلسطيني والأرض

  • 00:54 AM

  • 2019-06-01

عبد الرحمن بسيسو:

الشَّبَحُ (الشَّعْبُ الفلسطيني الآن): وقَالَتْ لِيَ الأرْضُ جَدَّتيَّ الغالية (الأرضُ الأُمُّ الْكُبْرَى أمُّ فِلَسْطِين):

"مَكثْتُ طَوَالَ الوقتِ مُذْ عُدْتُ إلى مِقْعَدي وأنا أتُابعُ بِعينٍ ما يجري في الْبَهوِ، وبالأخرى أُحّدِّقُ في دُرَرِ الْعِقْدِ اسْتَكشِفُ أطواءَهَا النُّورانِيَّةَ وأتَعرَّفُ ألْوانَهَا، وأمْعِنُ النَّظَرَ في الدُّرَّةِ الْقِلادةِ الْمُتَوَهِّجَةِ عَلَى صَدْري أسْتَبْطِنُ خَفَايَاها وأسألُ قَلْبَهَا عمَّا تَكْتَنِزُ شِغَافُهُ منْ مَعانٍّ ودلالاتٍ وأسْرَارْ. 

وحينَ أتمَّ الْبَحْرُ طُقُوسَهُ وأقفَلَ عائداً وعمَّ الصَّمتُ الْبَهوَ للحظاتٍ، وَجدْتُ في ذلكَ فُرْصةً مُنَاسبة للإصغاء لِهَمْسِ الدُّرة الْقِلادةِ وتأمُّلِ شَغَافَ قَلْبِهَا بِصَفاءِ ذِهْنٍ وإمْعانٍ وتَرْكِيزْ. فَيَا لَرَوْعَةِ الْمُفَاجَأةِ حينَ تُبْرِقُ وتَسْطَعُ! ويَا لَرَهْبةِ الوُصًولِ إلى لَحظةِ الكَشف! هَا هُمَا عَيْنَاي تَقَعَانِ في قَلبِ الدُّرَّةِ الْقِلادة عَلى كَلِمَةٍ مِنْ سِتَّةِ حُرُوفٍ مَنْقُوشةٍ بأنْوارٍ تَعْكِسُ ستةً مِنْ ألوانِ الطَّيفِ فِيما سَابِعُهَا  يُشَكِّلُ خلفيةً مٌنيرةً لَها جَمِيعاً! 

وها هُمَا أُذُنَايَ تُصْغِيانِ في عَينِ اللَّحظةِ إلى صَوتٍ ينبعثُ مِنْ قَلْبِ الدُّرَّة فَيَلْمَسُ قَلْبي وهو يَنْطِقُ الْكَلِمَةِ، حَرْفَاً حَرْفَاً، ثُمَّ وَهُو يَنْطِقُهَا مُجتَمِعةً بِنَبْرَةٍ آسرةٍ وتناغُمٍ أخَّاذ: "فِلَسْطِينْ"! فَيَا لَجَمالِ هَذِهِ الدُّرَّةِ الْمُنِيرةِ النَّاطقةِ الرَّائِيةِ الْبَصِيرة! 

أي حَفيدي، هَلْ تذكُرُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ؟ ألا تَزَالُ تَذكُرَهَا حتَّى الآنَ أمْ تُراكَ نَسيتَهَا تَحْتَ وطْأةِ الْكَرْبِ والْهَمِّ؟! لا، لا، لسْتَ بناسِيْهَا، ولَستَ بِمُسْتَطِيعٍ شيئاً إلا أنْ تَذْكُرَهَا، وليسَ لي أنْ أَشُكَّ في حَقيقةِ أنَّكَ تَذْكُرَهَا أنَّى كُنتَ، وأيَّاً كانت أحوالك، وفي أنَّهَا الآنَ أكثرَ حُضُوراً فِيكَ وإلْحَاحَاً عليك، أفَلَسْتَ أنْتَ مُكْتَشفُ الدُّرَرِ الْقِلائِدِ ومُخْرِجُهَا مِنْ الْخِضَمِّ الْمَائِجِ وَنَاظِمُهَا في عُقُودٍ دُرِّيةٍ مُقَلَّدة؟ 

إنِّي أذْكُرُ، بلْ إنِّي أُبْصرُ وأسَمَعُ كُلَّ شيء كَما لو أنَّه يَحدثُ الآنَ، هَاأَنَذَا أُبْصِرُ الكلمةَ "فِلَسْطِين" مَنْقُوشةً بالنُّورِ في قَلْبِ الدُّرة الْقِلادَةِ، وهاأنذا أُصْغِي لِصَوتِهَا الْهَامسِ يَنْطِقُهَا مِرَاراً في أذُنيَّ فَيَنْبِضُ لِسَمَاعِها قَلْبي، وهاأنذا أَنْطُقُهَا، مِرَارَاً وتِكْراراً، بِصَوْتٍ عَالٍّ على الملأ، فإذا بالسَّماء والشَّمسِ والْبَحْرِ والكواكبِ والأقمارِ والنُّجوم وكلِّ مَنْ في بَهو قَلْعَة الْمَنَارة يُردِّدُهَا كُلَّما نَطَقْتُهَا، وإذا بالْفَضَاءِ يُرَجِّعُ أصْدَاءَهَا، وإذا بالصَّوتِ والصَّدى والرَّجع يَبُثُّونَ على مَوجَاتِ الأثيرِ الْكَونِيِّ نَغَمَاتٍ باهِرَةٍ تَجْذبُ الأسْمَاعَ فتغمرُ النَّفوسَ بالرَّاحةِ والسَّكينةِ والرِّضا: "فِلَسْطينْ". 

"فِلَسْطينْ"، تلك هي الْكَلِمَةُ الاسمُ والنَّعتُ والنَّغم، وهيَ الصَّوتُ والصَّدى ورجْعُ الصَّدى. 

وإذْ أتَصَوَّرُ الآنَ أَنَّ "فِلَسْطينَ" قَدْ نُقِشَتْ في قَلْبِكَ يومَ نُقِشَتْ في قُلُوبِ الدُّرَر التَّوائم الَّتي اكْتَشَفْتَهَا، وإذْ أذْكُرُ إنِّي قَدْ أصَغيتُ إلى هَذا الاسمِ مَنْطُوقاً لأوَّلِ مَرَّةٍ في التَّاريخِ، مَعَ مَطْلَعِ التَّاريخ، بِشِفاهِ رُسُلِ التَّاريخِ ثُمَّ بِشَفَتيِّ السَّماءِ ثُمَّ بِهَمسِ شَفَتيِّ قَلْبِ الدُّرَّة الْقِلادة ثُمَّ بِشفَتيَّ ثُمَّ بِشَفَتيِّ الْكَونِ، يتأكَّدُ لي صِدْقَ ما فَعَلتُ حينَ أطلقتُ أنا نَفْسِي هذا الاسمَ عَلَى أُمِّكَ مُذْ خُلِقتْ، وحِينَ جَعَلْتُهُ اسْمَاً ولَقَباً وكُنيةً لَكَ مُذْ حَمَلَتْ بِكَ أُمُّكَ. 

ولأنَّكَ أنتَ مَنْ أخْرَجَ الدُّرةَ الْقِلادة وشَقيقَاتِهَا التَّوائم مِنْ عُمْقِ الْبَحْرِ ومَنحَني وأُمَّهُ وقَريِنَتَهُ السَّماويةَ إيَّاهَا قَبلَ أنْ يُدْرِكَ وجودَ توأمينِ آخرين لَهَا تُزيِّنانِ جِيدَ شقيقتيِّ قَرِينَته التَّوأمينِ: حُورِيَّتِّي الشَّمسِ والُبَحرِ،  ولأنَّكَ قَدْ أخْلَصتَ لأمَّك الولاءَ، ولأنَّ حَضَارَتَكَ قَدِ اشْرَأَبَّتْ إلى السَّماءِ تستكشِفُ آفاقَ الْكَونِ مُسْتَنيرَةً بأنوار اللَّهِ وأوغَلتْ في الأرضِ والْبَحْرِ تَتَعَرَّفُ أعْمَاقَهُمَا وتَعْمُرْهُما مُسْتَلْهِمَةً هَدْيَهُ وأشواقَ الإنسانِ، فأهَّلَتْكَ أَمَامَ التَّاريخِ والسَّماءِ لِتَقَلُّدِ الأمرِ وَحَمْلِ أمانةِ الْكِتَابِ الْمُنِيرِ، فَزَفَّا حَضَارَتَك إليْكَ حَبِيبَةً لكْ، وتَوَّجَاكَ وإيَّاهَا أمِيراً وأمِيرةً عَلَى عَرْشِ قَلْبي، فإنَّكَ مِثْلِي قَدْ أسْمَيْتَ أُمِّكَ ونَفْسِك وحَضَارَتِكَ وَوَطَنِك بالاسْمِ الَّذي اخْتَارَهُ الْوُجُودُ في تراسلٍ مع إرادتك: "فِلَسْطِينَ". 

ولأنَّ هَذَا الاسْمَ قدْ نُحِتَ بيدِ الْوجُودِ في قَلْبِ الدُّرَّةِ، وليس في أيٍّ موضعٍ آخرَ مِنْ أطْوائِهَا الْكَثِيرةِ، فَقَدْ تيقَّنتُ من شُعُورٍ لازمني مُذْ خُلِقْتُ بأنَّ هذا الجُزءَ المُسمَّى "فِلَسْطِينَ" مِنْ جَسَدي هو بالضَّبطِ قَلْبي. وباقترانِ نبضِ الوجودِ مع نَبْضِ الْحَيَاةِ في تَسْمِيَةِ قَلْبِي، بدأتُ أشعُرُ أنَّ دقَّاتِهِ قد انتظمتْ على نَحْوٍ جَعَلَنِي أشْعُرُ بأنَّ حياةً مديدةً تدفُقُ بالخُصُوبة والمجدِ والعنفوان قد شَرَعَتْ تُقْبِلُ نَحْوي فَتَمْلأُني بالفتوَّة الدَّائِمَة والتَّجدُّد الْخَلاَّق. 

هكذا اصْطُفِى الْوُجُودُ "فِلَسْطِينُ" لتكونَ دُرَّةً تَاجي، وهكذا ردَّدَتْ السَّماءُ اسمَ "فلسطين" ومَضت تُردِّده وهي تُغَادِرُ حَفْلَ الزَّفَافِ والتَّتويج مُبَارِكَةً الحُضُورَ الَّذِينَ غَادَرُوهُ مِثْلَهَا وَهُمْ يُردِّدُونَهُ. 

وهَكَذا تَجَلَّتْ "فِلَسْطِينُ"، بفعلِ فِعْلِكَ الْمُبْدِع في الْحَيَاةِ والْحَضَارَةِ والتَّاريخ، كَينُونَةً فَاعِلَةً راسِخَةً عَاليةَ الْقِيمَةِ في فَضَاءِ الْوُجُودْ.

وهكذا ظلَّت السَّماواتُ والبحارُ والشَّموسُ والأقمارُ والنُّجومُ والكواكبُ والملائكُة ورُسُلُ الحياةِ والتاريخِ والحَضَارةِ الإنْسانيةِ وكلُّ كائناتِ الْكَوُن ومَخْلُوقَاتِهِ أصواتاً تَتَوَاشَجُ وتَلْتَحِمُ كَأَوْتَارِ قِيثَارَةٍ كَونِيَّةٍ تَعْزِفُ، عَلَى مَرَّ العُصُورِ والدُّهُورِ، اسْمَ فِلَسْطِينَ، فَيَعُودُ رجْعُ أصْواتِهَا إليها لَحناً مَحْمُولاً على أمْوَاجِ الأثير الكونيِّ يحملُ اسْمَ حَبِيبَتِي "فِلَسْطِينَ" الَّتي اخْتَارَهَا الْوُجُودُ روضةً لِقَلْبِي، ومنارةً لأضْوائِهْ". 

*النص قيد الإعداد للنشر في كتاب، أمَّا اللَّوحة (الشِّعار)، فهي إهداء مقدر من الفنان التشكيلي الرَّقمي المبدع: نبيل البقيلي

كلمات دلالية

اقرأ المزيد

تحقيقات وتقارير

ثقافة وفن

مساحة اعلانية

آراء ومقالات

منوعات